أن امرأة جاءت تحتج لدى عبد الله بن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه فيما بلغها عنه من قوله: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ …. (21)) وكانت حجتها أنها قرأت القرآن فلم تجده فقَالَ لها: (لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ) (22)
فالصحابة كانوا يرون أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه قد نص عليه القرآن بعموم تلك الآية، رغم السياق الذي وردت فيه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمخترعات الإنسانية المستقبلية كانت غيبية في ذلك العصر لذلك لم يكن القرآن يذكر شيئاً منها إلا عن طريق الإشارة الكافية، أو العبارة العامة (23).
وكذلك بعموم الآثار التالية:
ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه أنه قال: (من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين) (24)، وقول عبد الله بن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه: (من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن)، وقول أبي الدرداء رَضِي اللَّه عَنْه: (لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها) (25).
رابعاً - المعقول:
1_ أمرنا الله عز و جل بآيات صريحة في كتابه بتدبر القرآن، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24] وقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82] وحتى يكون التدبر في محله ينبغي أن يكون بحسب محتوى الآية وما يتصل بها من موضوعها (26)، ففي القرآن ـ مثلاً ـ آيات تتحدث عن الكون، فلا مانع من أن يذكر المفسر عند تفسير هذه الآيات ما يتعلق بها مما اكتشفه العلم الحديث من أسرار الكون.
2_ إن القرآن حمّال وجوه، لا تحكّم في فهم أسراره (27)،فالسلف فصلوا في علوم اهتموا بها، لذلك ليس هناك ما يمنع من أن نسير على آثارهم في علوم أخرى، ترجع لخدمة المقاصد القرآنية، أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أو إيضاحاً لمعنى الآية، أو استطراداً في العلم لمناسبة التفسير (28).
3_ إن الله سبحانه استدل في كتابه على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وكيفية أحوال الضياء والظلام والشمس والقمر والنجوم، وكررت هذه الأمور في كثير من السور، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل فيها جائزاً، لما ملأ الله كتابه منها (29).
4_ إن القرآن معجزة باقية ومقاصده ترجع إلى عموم الدعوة "فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام " الناس ممن يأتون في عصور انتشار العلم (30).
5_ "إن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة" (31).
6_ إن التفسير العلمي هو الذي يخلصنا من بعض الخرافات التي فسرت بها الآيات الكونية (32)، وهو الذي يقينا من أن نعلل بعض الظواهر الكونية تعليلاً غير علمي (33).
7_ إن القول بالتفسير العلمي يحقق لنا فوائد كثيرة منها:
أ_ استمالة غير المسلمين.
ب_ رد مزاعم القائلين بأن هناك تعارضاً بين الدين والعلم.
ج_ الحث على الانتفاع بقوى الكون (34).
د_ تمتلئ النفس رهبة وإيماناً بعظمة الله وقدرته، حينما يرى الإنسان تفسير القرآن على دقائق المخلوقات وخواصها، حسب ما تصورها علوم الكون (35).
هـ_ إثبات أن القرآن موحى به من عند الله تعالى، وذلك بإظهار ترقي العلم للحقيقة القرآنية (36).
يظهر من خلال هذه الأدلة حرص المؤيدين على تأصيل التفسير العلمي، وذلك بالبحث عن أدلة تدل على إمكانيته ومشروعيته،فإلى أي مدى وفقوا في ذلك؟ حاول المفسرون أولاً التوفيق بين العلم والقرآن، ومن ثم أخذوا يبحثون عن أدلة تسوغ تطبيقاتهم التوفيقية، فكانت هذه التطبيقات ذاتها هي الدالة على الدليل، وليس الدليل هو الذي دل عليها، فالقرآن هو تفصيل لكل شيء إذا قام المفسر بالإسهاب التفصيلي في أي أمر يذكره القرآن،والإعجاز العلمي أشار إليه القرآن بتحديه لأهل الكتاب – الذين كانوا أهل علم – بأن يأتوا بأهدى من هذا الكتاب، لأن النبي الذي
¥