أما عن كتابات أنور الجندي فإن "" الأسلوب العلمي [الأركوني طبعاً] يحتقر هذا النوع من الكتابة "" (). ويصف نصاً ينقله لأنور الجندي بأنه يفيض بالأحكام التعميمية المزعجة، والتبسيطات السطحية الرديئة، والتعبيرات الهائجة، والأوامر الاعتباطية، والهواجس العصابية التي تُغذِّي الوعي الخاطئ للخطاب الإسلامي ()، مع أن الجندي كان يعدد بعض مبادئ الإسلام وتعاليمه وقيمه بهدوء، ولم أجد فيه شيئاً من الأوصاف الأركونية الفاشية السابقة ().
بل إن كتاب شحرور " الكتاب والقرآن. قراءة معاصرة " وكتاب الصادق بلعيد " القرآن والتشريع " يعتبران بنظر أركون "" مثالان للنقد الذي يعطينا صورة عن التراجع الفكري الذي حصل للفكر الإسلامي طيلة الخمسين عاماً الماضية "" ().
لماذا؟! وقد قام الرجلان بما تتطلبه الحداثة الأركونية، ونسفا كل أحكام القرآن وتعاليمه؟!
لعل السبب في ذلك أن الرجلين قد ابتدآ دراساتهما بعد الإيمان بالمفهوم التقليدي للوحي، يعني أنهما لم يُشكِّكا في حقيقة الوحي كما هو معروف في الفكر الإسلامي، إن الوحي في كتابات هؤلاء "" لم يتعرض للمساءلة، ولم يصبح إشكالياً، وإنما تم تثبيته مرة أخرى بالنسبة للمسلمين اللذين قد يتعرض إيمانهم للاهتزاز أو الزعزعة تحت تأثير الفكر العلمي الحديث "" (). في حين يريد أركون "" نقد أكثر جذرية، وهو نقد يرتكز على القضايا الأساسية التي أحاول أنا شخصياً إدخالها وإعادة تنشيطها وبعثها بصفتها مساهمة في إنجاز المهام الخصوصية لما أدعوه بالعقل الاستطلاعي المستقبلي المنبثق حديثاً "" ().
وهكذا تبدو العجرفة العلمانية في شكل فاشية تنفي وتقصي كل الآخرين لتثبت ذاتها في القمة والهرم، هذا عندما تكون في إطار تنافسي مع أجزائها، أما عندما تكون في إطار تنافسي مع الإسلاميين فإنها لا تحرم مشايعيها من بعض الإطراء والثناء، عند ذلك توصف مؤلفات الإسلاميين بأنها "" الأدبيات التراثية للإسلام النضالي الوعظي الدوغمائي ذي الأهداف الشعبية أو حتى الشعوبية الديماغوجية "" (). أما ما يكتبه هو وشيعته العلمانية فإنها "" الكتب العلمية التي تقدم صورة تاريخية أو واقعية موضوعية عن الإسلام، أقصد بذلك الكتب الجادة التي تعطي الأولوية للتحليل التفكيكي والإيضاحي والنقدي عن كل أنظمة العقائد واللاعقائد " وعن كل التركيبات اللا هوتية "" ().
يجب أن تنطلق الدراسة النقدية للقرآن – إذن - من الخلفية الفلسفية التي يتبناها الخطاب العلماني، وأن تتجنب الوقوع في أسر التبريرات والتأويلات ذات الطابع الدفاعي أو السجالي، وأي قراءة "" تستبعد السياق التاريخي الشامل لنزول الآيات وما يتضمنه من سياقات جزئية ستفضي بالضرورة إلى الانخراط في التعامل مع افتراضات تحددها أساساً أيديولوجية الباحث "" (). وأي دراسة لا تلتزم بالمنهج اللغوي – البوزيدي - "" الوحيد "" ستكون دراسة منخرطة في شبكة الإجابات الجاهزة، ودوامه التشويش الأيديولوجي ()، وترتدي ثياب التراث في أشد اتجاهاته تخلفاً ورجعية (). ولذلك يكون منهج التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد الإنساني الممكن لفهم الرسالة، ومن ثم لفهم الإسلام ().
وهكذا يحسم الخطاب العلماني موقفه مستخدماً كل أشكال المصادرة والنفي والإقصاء والفاشية هذه الأوصاف التي لا يكف عن وصم الآخرين بها.
المبحث الثالث
القرآن الكريم تحت مطرقة النقد العبثي العلماني
ينطلق الخطاب العلماني في تعامله مع القرآن الكريم من خلال عدة أسس مرت معنا جميعها متفرقة في ثنايا البحث ونلخصها بالمحاور التالية:
1 - الأنسنة: فالنص القرآني بنظر هذا الخطاب قد تأنسن منذ أن تلفظ به النبي ? وتحول منذ تلك اللحظة من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل، والمصدر الإلهي للنصوص لا يخرجها عن كونها نصوصاً بشرية لأنها تأنسنت والنص الخام المقدس لا وجود له لأن الكلام الإلهي المقدس لا يعنينا إلا منذ اللحظة التي تموضع فيها بشرياً (). ومن هنا يقول "" إننا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية "" ().
2 - المركسة: فالنص "" منتَج ثقافي "" و ""يعيد إنتاج الثقافة "" (). ويستمد خصائصه من حقائق بشرية دنيوية اجتماعية، ثقافية، لغوية ().
¥