تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالإعجاز القرآني بهذا المنظور ليس متفرداً لأنه لا يختلف عن بقية الآثار والتحف الفنية الراقية من حيث أنها لا يمكن الإتيان بمثلها إلا عن طريق المحاكاة، والمحاكاة دائماً انحطاط عن الأصل () "" القرآن إذن عمل أدبي أصيل ليس تقليداً، ولا يمكن تقليد مثله ... والعمل الأدبي لا ينقسم إلى أجزاء بل هو كلٌّ واحد. ليس العمل الأدبي كماً بل هو كيف، ولا يمكن لأحد أخذ جزء منه وتذوقه تذوقاً أدبياً دون كله "" (). وهو ما يعني أن القرآن ليس معجزاً بنظمه وبلاغته وبيانه ومعانيه، إذ هو لا يختلف عن بقية النصوص في ذلك بدليل أن العرب لم يكونوا قادرين على استيعاب المغايرة بين القرآن وغيره، وكانوا يريدون جره إلى نصوصهم كالشعر والكهانة والسجع وغير ذلك ().

وهنا يتنكر الخطاب العلماني لحقيقة أن المشركين عندما وصفوا القرآن بأنه شعر أو سحر أو كهانة أو غير ذلك إنما كانوا يعبرون عن اضطرابهم الشديد وحيرتهم في وصف القرآن الكريم، إن هذا التردد في موقف المشركين والحيرة ليدل على هول الصدمة التي أحدثها القرآن في عقولهم وقلوبهم، فكانوا يتنقلون من قالة إلى قالة لوضوح الافتراء، وسطوع الكذب، فتكذيبهم للقرآن لم يكن عن قناعة، ووصفهم للقرآن بما وصفوه ليس لعدم قدرتهم على إدراك إعجاز القرآن وتفرده، وإنما هو لون من الجحود والمكابرة يراد منها المحافظة على المصالح والامتيازات.

هذا بالإضافة إلى تنكر الخطاب العلماني للروايات التي تبين أن المشركين كانوا يعترفون فيما بينهم بأن القرآن ليس من كلام البشر، ومن ذلك قول الوليد بن المغيرة "" إن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه وما هو من كلام البشر "".

ولكن في ضوء الجذور التي يستند عليها الخطاب العلماني فإن الموقف من الإعجاز ليس مستغرباً فهو جزء من الموقف الإنسي والماركسي الذي يتشبث دائماً بالتفسير المحسوس والوضعي، ويطمس كل الأبعاد الغيبية والإلهية في القرآن الكريم.

إن تمييع مفهوم الإعجاز يستند على القول بأن القرآن الكريم ليس وحياً من الله عز وجل بلفظه ومعناه وإنما المعنى فقط من الله، أما الألفاظ فهي من النبي ?، والمستند في ذلك إما قول شاذ أورده السيوطي () كما يحاول نصر حامد أبو زيد وغيره (). وإما استغلال أحاديث الأحرف السبعة للقول بأن القراءة كانت متاحة للجميع بأي الألفاظ ما دامت تؤدي المعنى كما يزعم العشماوي ().

ولأن السيوطي أورد هذا القول في كتابه الإتقان فقد اعتُبر القدماء يقبلون أن يكون القرآن نزل بالمعاني فقط، ولذلك فهم أوسع أفقاً من المعاصرين، لأن القول بأن القرآن صاغه النبي ? بألفاظه هو الأولى في المعقولية الحديثة، أما التصور السني المخالف فقد أفقد النبي [?] إرادته وملكاته ().

ونتساءل هنا: إذا كانت لغة النبي ? بناءً على ما يقرر الخطاب العلماني نفسه لا بد أن تحمل آثار البيئة ومعطياتها فكيف يمكن والحالة هذه أن يصل المعنى الإلهي سليماً؟ إنه سيكون مجرد خواطر يعبر بها النبي ? عن مشاعره وأحاسيسه. وإذا كان المعنى إلهياً فكيف يكون القرآن تاريخياً؟ لأنه في هذه الحالة سيكون مهيمناً على التاريخ بكل أبعاده؟ وإذا كان القرآن لا بد أن يستجيب لكل ما تتطلبه المعقولية الحديثة أو الضمير الحديث فما الحاجة إليه؟ فليعد الإنسان مباشرة إلى ضميره ليعالج واقعه بما ينسجم معه وليترك القرآن فلن يضيف شيئاً سوى مشقة البحث المعروفة نتيجته سلفاً ().

هكذا يريد الخطاب العلماني أن يرسِّخ بشرية القرآن بكافة الوسائل، وأن يقوِّض قداسته من كل الجهات، فالألفاظ ما دامت تؤدي نفس المعنى فهي جائزة، والمعاني لا نهائية، وغير محددة، ولا يمكن لأحد أن يحدد معنى القرآن، وبذلك يصبح نزول القرآن وعدمه سواء، وهي النتيجة التي يناضل الخطاب العلماني للوصول إليها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير