تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تقديم الشروط الضرورية والكافية لتحقق الشيء المُشار إليه بالمفهوم المُراد تحليله كي نميِّز بين هذا الشيء والأشياء الأخرى. هذا ما لم يقم به الجابري من خلال تعريفه للقرآن على أنه الموجود في الكتب السماوية السابقة. وبذلك يفشل تحليله.

تناقضات

كما أن الجابري يغرق في الغيب، حيث يؤكد على أن الظاهرة الدينية هي تجربة روحية، وأن التجرية الروحية معاناة مع المطلق تقع وراء الحس والمحسوس والعقل والمعقول (ص 26). مشكلتنا مع هذا التحليل أنه فارغ المضمون لافتقاره إلى تحديد المفاهيم والمفردات المُستخدَمة في تعريف الظاهرة الدينية. فلقد عرَّف الظاهرة الدينية من خلال مفهومي الروح و المطلق. لكنه لم يُقدِّم تعريفا للروح وتعريفا للمطلق، وبذلك أصبح تعريفه فارغا من أي محتوى.

لا يكتفي الجابري بذلك بل يمضي في تناقضات عديدة ومختلفة. فمثلا يُعبِّر عن منهجه قائلاً: « ... السبب في مثل هذا الاضطراب إن لم نقل «التخبط» في تفسير كثير من الآيات القرآنية يرجع في الغالب ... إلى عدم اعتبار مسألة منهجية أساسية، وهي النظر إلى كل آية داخل السياق الذي وردت فيه وتجنب اقتطاعها منه والتعامل معها كنص مستقل بذاته «(ص 89). وهو بذلك يلتزم بمبدأ «القرآن يُفسِّر بعضه بعضاً» (ص 90). لكنه يناقض موقفه المنهجي هذا بقوله: «وهذه الخاصية البيانية جعلت النص القرآني منفتحاً بحيث يمكن فهمه وتفسيره من دون التقيد بتسلسل معين، فكل سورة فيه يمكن أن تكون موضوعاً لتفسير خاص بها أو نقطة انطلاق لتفسير الكل، فالمفسِّر ـ ومثله المترجم ـ لا يفسر نصا مبنيا جامدا في قالب، وإنما يفسر نصوصا محدودة (مسورة في سور) أغلبها مستقل بنفسه (مجموعة آيات)» (ص 243ـ 244). لكن إذا كان القرآن يفسر بعضه بعضاً، إذن يستحيل أن تكون أغلب الآيات القرآنية مستقلة بنفسها وأن تكون كل سورة موضوعا لتفسير خاص أو انطلاقا لتفسير الكل. هكذا يقع الجابري في التناقض؛ فقوله بأن القرآن يفسِّر بعضه بعضا يناقض قوله بأن أغلب الآيات مستقلة بنفسها وأن كل سورة قابلة لتفسير خاص.

يستمر الجابري في عرض تناقضاته. يقول: «لقد أكدنا مرارا أننا لا نعتبر القرآن جزءا من التراث. وهذا شيء نؤكده هنا من جديد، وفي نفس الوقت نؤكد أيضا ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن، سواء كظاهرة بالمعنى الذي حددناه هنا، أو كأخبار وأوامر ونواه، هي كلها تراث، لأنها تنتمي إلى ما هو بشري» (ص 26). هذا يعني أن القرآن ليس جزءا من التراث لأنه ليس بشريا. لكنه يناقض موقفه هذا بالذات حين يقول: «فالظاهرة القرآنية ... ظاهرة عربية» (ص 27). فبما أن الظاهرة القرآنية ظاهرة عربية، إذن القرآن جزء من التراث. وبذلك يقر بأن القرآن جزء من التراث وبأنه ليس كذلك في آن معاً، وهذا تناقض قاتل.

يقع الجابري في تناقض آخر. يقول: «وهذا يعني أن العرب قبل الإسلام لم يكن لديهم أي تصور للنبوة، إلا بمعنى الرفعة والشرف، أما أن يتلقى الواحد من البشر الوحي من الله فذلك ما كان غائباً عن معهودهم» (ص 112). لكن موقفه هذا يناقض قوله بأن الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت تشهد حركة دينية واسعة تنتظر ظهور نبي جديد وبذلك تؤمن بالنبوة. يقول: «في هذا الإطار، إذاً، تقع تلك الروايات المتعددة التي تنقل إلينا أخبارا وتفاصيل عن تصريحات كثير من الرهبان «النصارى» بقرب ظهور نبي جديد! وفي هذا الإطار نفسه يجب أن نضع تلك الحركة الواسعة التي انتشرت في جميع أجزاء الجزيرة العربية ـ تقريبا ـ والتي كانت تبحث عن «الدين الحق»، دين إبراهيم، والتي عرف أصحابها باسم «الحنفاء» ... وقد التقى النبي مع بعضهم وسئل عن آخرين فامتدحهم جميعا وقال عن بعضهم إنهم أنبياء أضاعهم أقوامهم» (ص74). هكذا يؤكد الجابري على القضية ونقيضها وعلى الأمر ونقيضه فيقع في التناقض. فالقول بوجود حركة دينية واسعة تنتظر نبوة جديدة وبذلك تؤمن بالنبوة، ونفي وجودها في آن معا هو تناقض فاضح.

رفض الآخرين

يضيف الجابري تناقضاً آخر حين يقول: «القصص القرآني ليس مجرد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسيلة في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيدا عن أساليب اللاعقل!» (ص425). ويؤكد على عقلانية القرآن قائلاً: «القرآن يدعو إلى دين العقل، أعني إلى الدين الذي يقوم فيه الاعتقاد على أساس استعمال العقل، انطلاقا من الاعتقاد في وجود الله إلى ما يرتبط بذلك من عقائد وشرائع» (ص429). لكن الجابري يناقض موقفه القائل بعقلانية القرآن حين يقول عنه: «إنه نص بياني من نتاج الوحي لا من إنتاج المنطق» (243). هكذا غدونا خارج الحضارة برفضنا للمنطق و العقل.

يختم الجابري كتابه بنقد الأديان الأخرى والتأكيد على تفوق الإسلام. يقول: «أما المسيح فقد ظهر ثم غاب! كالشرارة التي ما إن يأخذ الرائي في تحديد مكانها فوق الموقد حتى تختفي!» (ص 432). هذا كلام غير علمي وغير موضوعي؛ فالمسيحية ما زالت حية والمسيح بالنسبة إلى المسيحيين حي يهدي الناس كما يفعل الله وسائر الأنبياء تماماً بالنسبة إلى المسلمين. هكذا يقع الجابري أيضاً في رفض الآخرين مما يزيدنا تخلفاً ويزيده رفضاً للموضوعية ولأصول البحث العلمي.

جريدة السفير

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير