تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهي خمسة وعشرون ليرة تُدسُّ في جيب البواب بلطف، ارتفع صوتنا وحضر الشرطي وأدخلنا عنده ليحل المشكلة، وكان هناك شخص يعرفني فقال لي: " أهلين دكتور" ففوجئ البواب وقال لي: " أنت دكتور؟ مو باين عليك!! " وكان هناك اتفاق بين كل الحاضرين في جلسة الصلح - وكانوا كثرة - أن الحق عليّ، وأنني المخطئ، لأنني كان يجب أن أُعرِّفه على نفسي " كدكتور" وعندئذ سأدخل بدون خمسة وعشرين، وبدون صعوبات، يعني أن الدكتوراه تساوي خمسة وعشرين ليرة، لكن ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة في الحادثة وهي نموذج يتكرر ملايين المرات في كل الدوائر الحكومية وغير الحكومية، المشكلة أن الإنسان لا يُعرّف بهويته الحقيقية وهي " الإنسانية " " أنا إنسان " أنا ابن آدم " لا بل: أنا دكتور، أنا عضو في مجلس الشعب، أنا محامي أنا مهندس أنا فلان أو ابن فلان ... أما الفقير الذي لا يملك شيئاً من هذه الاعتبارات الإضافية فهو الوحيد الذي يقف أما البواب أو أمام أي موظف بهويته الحقيقية، وهي " إنسانيته " وما أرخصها في مجتمعنا، إنها تداس بالأقدام! وتضرب بالنعال.

وهنا يحضرني موقف النبي ? حين مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ ذات يوم فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟! () نعم وإن كانت ليهودي لكنها لإنسان يشترك معنا في جوهر الإنسانية وكرامتها، وهذا كاف لمنحه مستوى ما من مستويات التكريم والاحترام.

نعم إن مجتمعاتنا الإسلامية اليوم مريضة جداً، وكان المؤمل أن يكون للعلماء دوراً ريادياً في المعالجة والإصلاح، ولكن الذي حصل هو العكس، ففي حالات كثيرة وحقب ومراحل زمنية طويلة كان المنتسبون إلى العلم في كثير من الأحيان يُفرزون جراثيم تزيد من الوباء وأحياناً تبرر له، لأن القاعدة الشعبية العريضة تنظر لهم على أنهم هم القدوة والمثال الذي يُحتذى، فباب العدوى السلبية في هذه الحالة مفتوح على مصراعيه بين النموذج المريض والتابع المسكين.

إن المسلم المسكين يحلم باليوم الذي لا يحتاج فيه الإنسان إلى واسطة حين يذهب إلى دائرة حكومية أو مشفى، ويحلم باليوم الذي يحصل فيه الإنسان المسلم على هويته " إنسانيته " أين ما ذهب ويعامل بالإكرام والاحترام أياً كان حتى ولو كان زبالاً أو من هو في مستواه.

نعم هنالك تراكمُ هائلٌ من الفساد، وهو نتاج عقود من الزمن في الدوائر الدينية، ويحتاج إلى أشبه بالخارقة حتى يتم تجاوزه وإصلاحه، يحتاج إلى شبكة من الطيبين المخلصين تتكاتف وتتعاون لإزاحة العناصر الضارة وتنظيف المؤسسة الدينية من تراكماتها الخاطئة، ومحاسبة المخطئين والمفسدين، إن الموظف اليوم يفعل ما يشاء بالمواطن الفقير يُهينه ويبتزه ويعرقل شؤونه دون رقيب أو حسيب.

ولذا لا بد من وقفة للمراجعة مع الذات، وأن نتخلص من النظرة النرجسية التي تحجبنا عن رؤية عثراتنا وأخطائنا، ولا بد من مواجهة الحقيقة بشجاعة، والأشخاص مهما كانوا كباراً وعظماء هم في النهاية بشر يصيبون ويخطئون، فما ينبغي أن تحجبنا عظمتهم وأبهتهم وقداستهم عن محاسبتهم " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " (). على الأقل محاسبة فكرية وعلمية.

الخاتمة:

لقد تحدثت عن أهمية القدوة كما عرضها لنا القرآن الكريم والسنة الشريفة وكما ارتسمت ملامحها في المنهج الإسلامي عموماً، وبينت أن القدوة الحسنة تصنع مجتمعاً حسناً، وأن القدوة الفاسدة تُنتج مجتمعاً فاسداً، وأن ما نراه من انهيار على المستوى القيمي في الغرب هو نتاج للنجومية الزائفة، فقلما نجد عالماً أو عبقرياً أو فيلسوفاً في التاريخ الغربي الحديث محمود السيرة، والسبب في ذلك هو انهيار المقدس بشكل عام، وانهيار النموذج المثالي المسيحي الذي كان من المفترض أن يوجه تيار القيم والأخلاق، وقد حل محله نموذجاً دنيوياً لا يقيم وزناً لأية غيبيات ولا يعترف بأية مطلقات قيمية أو ما ورائية، وكرس على مدى قرون عديدة نسبية الأخلاق، ومادية الفكر، فكانت النتيجة على مستوى الحضارة حالة من الانفلات والتفكك والإباحية والضياع الاجتماعي والأسري سلوكياً وحالة من الإفلاس واليأس والقنوط والعدمية فكرياً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير