فهذا غير ممتنع ولا مدفوع.
ويمكن أيضًا أن يكون لم يثبت دعاء القنوت في مصحفه، ولكن في صحيفة أو ورقة كان فيها كلام أراد نقله وضمه إلى المصحف، وكما يتفق للناس مثل ذلك عند الحاجة إلى التعليق والضبط، فلما حُملت الصحف والرقاع إلى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه ليجمع ما فيها ويضمه ويجعله إمامًا وجد دعاء القنوت في بعض ما كان عند (أُبيّ)، ثم درس ذكر ذلك والخوض فيه والسؤال (لأُبيّ) عنه لعلمه بارتفاع الشبهة عنه في أنه دعاء ليس بقرآن، فلما تمادى الزمان وجمع عثمان الناس على مصحفه وحرقه جدد ذكره لذلك مجددًا وأعاده وأبداه ليجعل ذلك ذريعة إلى مخالفة عثمان وتسهيل سبيل القرآن غير ما في مصحفه وظهوره ...
قال: وقد زعم قوم أنه لا يمتنع أن يكون دعاء القنوت كان قرآنًا فنسخ أو أزيل فرض كتابته وتلاوته مع القرآن لما فيه من فصاحة النظم وجزالته ومناسبته ومقاربته لنظم القرآن، وإن كان هذا هكذا فإثبات (أُبيّ) له كإثبات قوم غيره لأشياء نسخت بعد أن أنزلت، وإنما لم يجب أن يسيغ نقل دعاء القنوت ما يظهر على هذا الجواب كظهور نقل غيره مما يثبت، لأجل أنه لما نسخ انصرفت الهمم والدواعي عن نقله وإحاطته إلا في موضع الدعاء به فقط، كما انصرفت هممهم عن نقل كثير مما نسخ رسمه وتلاوته، ففي هذا نظر! أعني قولهم إنه معجز، لأن نظمه مباين لنظم القرآن وغير خارج عن وزن كلام العرب، ولكن يحتاج ذلك إلى لطيف فكر وتدبر ونقل وتأمل ...
ثم حكى رحمه الله قولاً آخر ورفضه، ثم قال:
فوجب أنه لا معنى لهذا القول ولا الذي قبله، ووجب أن يُحمل أمر (أُبيّ) في ذلك -إن صح الخبر عنه- على بعض ما قدمناه. وإن لم يصح فقد كُفينا مؤنة تطلب تأويل له. وهذا هو الثابت، أعني بطلان هذه الرواية عنه وتكذبها، وليس يُروى ذلك إلا عن ابن سيرين وآخر معه، أنهم قد وجدوا مصحفًا عند أنس ذكر أنه مصحف (أُبيّ)، فيه دعاء القنوت، ومثل هذا لا يثبت فيه على (أُبيّ) إدخال شيء في القرآن ليس منه.
وروى بعض المعتزلة القدرية عن عمرو بن عبيد أنه قال: رأيت مصحفًا كان لأنس بن مالك قرأه على (أُبيّ بن كعب)، فكان فيه دعاء القنوت.
وهذا أوهى وأضعف وأولى بالرد من الأول. قال أبو الحسن عليُ بن إسماعيل الأشعري: وقد رأيت أنا مصحف أنس بالبصرة عند بعض ولد أنس، فوجدته مساويًا لمصحف الجماعة لا يغادر منه شيئًا. وكان يُروى عن ولد أنس عن أنس أنه خط أنس وإملاء (أُبيّ).
وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ما رواه من ذلك باطلاً لما ذكرناه من العادة في بيان القرآن وقلة شهرة ذلك عن (أُبيّ)، ومعارضة الأخبار الثابتة لهذه الرواية بأن مصحف أنس كان موافقًا له، وشهادة الطفيل ومحمد ابني (أُبيّ) أن عثمان قبض مصحف (أُبيّ)، فوجب بهذه الجملة وضوح سقوط التعلل بهذه الرواية والاستناد في الطعن في نقل القرآن وإبطال شهرة بيانه وظهور نقله وحفظ الأمة لجميعه إلى مثلها والاعتماد عليها.
انتهى كلام الباقلاني رحمه الله.
(الانتصار للقرآن، للباقلاني، تحقيق محمد عصام القضاة، دار الفتح بالأردن ودار ابن حزم ببيروت، ط 1، 1422هـ/2001م)
وخلاصة كلامه رحمه الله:
أولاً: دعاء القنوت ليس من القرآن:
1 - لأنه لو كان من القرآن لتوافرت الهمم والدواعي على حفظه وإشاعته، ولتواتر عن النبي عليه الصلاة والسلام كتواتر باقي القرآن عنه.
2 - لأن نظمه قاصر في البلاغة والفصاحة عن رتبة القرآن.
ثانيًا: روايات وجود الدعاء في مصحف (أُبيّ) -رضي الله عنه-:
1 - ليس لهذه الروايات سند ثابت يوجب العلم.
2 - غاية ما في الروايات أن (أبيًّا) أثبت دعاء القنوت في مصحفه، ولا يلزم من ذلك أنه قرآن منزل، ولا أنه -رضي الله عنه- عده كذلك.
3 - يبطل الروايةَ الثابتُ المشهور عن (أُبيّ) -وجميع الأمة- على تصحيح مصحف عثمان رضي الله عنه. بل كان (أُبيّ) -رضي الله عنه- مثنيًا على ما جمعه للناس على مصحفه.
4 - الثابت من كثرة علم (أُبيّ) ومعرفته بالقرآن ونظمه يبطل أن يكون -رضي الله عنه- قد اعتقد بقرآنية دعاء القنوت.
5 - الثابت من تشديد عثمان -رضي الله عنه- في تحريق المصاحف المخالفة لمصحفه يوجب أن يكون مصحف (أُبيّ) أولها فناءً، وقد وردت روايات بذلك. فكيف بقي مصحفه حتى رآه الناس ورووا أنه كان عند أنس بن مالك وأنه كان فيه دعاء القنوت؟! يؤيد ذلك تصريح أبي الحسن الأشعري برؤيته لمصحف أنس الذي ذُكر أنه مصحف (أُبيّ)، وأنه كان موافقًا لمصحف الجماعة.
6 - لو ثبتت الرواية فغاية ما فيها رؤية البعض لمصحف منسوب إلى (أُبيّ) رضي الله عنه، وليس بمثل ذلك تثبت نسبة الكتب إلى أصحابها، بل تثبت بالأخبار المتظاهرة المستفيضة الموجبة للعلم.
7 - لو صحت الرواية لوجب حملها على وجه لا يقتضي مخالفة كل الثوابت المتقدمة، فمن المحتمل أن يكون (أُبيّ) أثبت دعاء القنوت لمداومة الرسول عليه الصلاة والسلام عليه لا لاعتقاده بقرآنيته، ومن المحتمل ألا يكون أثبت الدعاء في صلب المصحف ولكن في صحيفة أخرى ضمها إليه لسبب أو لآخر.
¥