تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا

ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[28 - 03 - 2006, 04:03 ص]ـ

يقول الله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا) [الفرقان: 11].

وقوله سبحانه: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ)، فيه مسائل:

(بَلْ): هي في اللغة على وجهين:

الأول: (بل) الابتدائية، وهي التي تليها جملة، ومعناها الإضراب.

والإضراب: إما أن يكون معناه الإبطال، مثل (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) [الأنبياء: 26]. أي لم يتخذ الرحمن ولداً، بل الملائكة عباد مكرمون. وإما أن يكون معنى الإضراب الانتقال من غرض إلى آخر، مثل (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [الأعلى: 14 - 16].

الثاني: (بل) العاطفة، ومعناها الإضراب عن الأول، والإثبات للثاني، ولا تكون حرف عطف إلا بشرطين: أن يكون معطوفها مفرداً لا جملة. وأن تُسبق بإيجاب أو أمرٍ أو نفيٍ أو نهيٍ.

و (بل) في النصّ هنا ابتدائية، لا عاطفة، والإضراب فيها إضراب إبطال لما قبلها وإثبات لما بعدها، لا إضراب انتقال من غرض إلى غرض. والمعنى أن الكافرين المتحدَّث عنهم ليسوا مقتنعين بما قدّموا من تعللات، وتشكيكات، وجدليات، بل اتخذوها ذرائع، وعلتهم الداخلية أنهم كذبوا بالساعة، أي بيوم الدين وما فيه من جزاء بالثواب في جنات النعيم، وبالعقاب الأليم في الجحيم، وبالبعث بعد الموت للحياة الأخرى.

(كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ): جعلوا خبر الساعة خبراً كذباً ليس له مطابق في الواقع الذي سيحدث، وتكذيبهم هذا لا دليل لهم عليه مطلقاً، فهو مجرّد رفض للخبر وتكذيب به. يُقال لغة: كذّب فلانٌ فلاناً تكذيباً وكِذّاباً، إذا نسبه إلى الكذب فيما أخبر به، واتهمه بالكذب. ويُقال: كذّب بالخبر تكذيباً وكذّاباً إذا جعله أو اعتبره خبراً كذباً غير مطابق للواقع.

ولذلك نجد في القرآن الكريم أن فعل التكذيب، إذا كان معموله مبلِّغ الخبر جاء الفعل متعدّياً بنفسه إلى المفعول به، دون حرف الجرّ (الباء)، كما جاء في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء: 105]، وقوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء: 176]، وقوله: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ق: 14]، وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) [الشعراء: 189]، وقوله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) [القمر: 9]، وقوله: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ) [آل عمران: 184] .. وهكذا.

وإذا كان التكذيب للخبر نفسه جاء الفعل متعدّياً بالباء، كما جاء في قوله تعالى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا) [غافر: 70]، وقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ) [ق: 5]، وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) [المائدة: 10]، وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) [القمر: 23] .. وهكذا.

والذي يظهر أن أصل الكلام في هذا: كذّبوا المخبر بما أخبر به، فكذّبوا الرسول بما جاء به عن ربّه، وقد دلّ على هذا التقدير قول الله عزّ وجلّ: (فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ) [الفرقان: 19].

ولدى الاستعمالات الكثيرة نلاحظ أنه قد يحذف من الكلام الباء وما دخلت عليه، وقد يحذف منه المخبِر بالخبر، وفي كلتا الحالتين يحسن بمتدبّر كلام الله تعالى أن يتصوّر لدى تدبّره المحذوف منهما. وقد يحذفان معاً، ويُقتصر في النصّ على ذكر التكذيب فقط، ومنه قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ) [ص: 12]، وقوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) [يونس: 39]، وقوله: (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) [طه: 56].

بعد هذا نقول: إن تكذيب الذين كفروا بنبأ الساعة الذي جاء به رسل الله، هو الذي دفعهم إلى اصطناع جدليّاتهم وتعللاتهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول القرآن. والساعة التي كذبوا بها هي بالدرجة الأولى ساعة البعث إلى الحياة بعد الموت للحساب والجزاء، ويجرّ هذا التكذيب إلى التكذيب بساعة إنهاء ظروف هذه الحياة الدنيا، بإماتة الخلائق جميعاً وإفنائهم وتغيير هذا النظام القائم.

والكافرون الذين يؤمنون بالرب الخالق سبحانه يرون أن أعمال خلقه قاصرة على ظروف هذه الحياة الدنيا، فهم لا يرون لأنفسهم بقاءً إلا ما يحيونه في هذه الحياة، فلا شيء بعد ذلك، ومن أجل هذا تكون أعمالهم وتصرفاتهم دائرة في حدود ما يصيبون من خير أو شرّ في هذه الحياة، ولا يتصوّرون لأنفسهم حياة غيرها.

فكل دليل أو آية أو برهان عقلي يتضمّن إخراجهم من هذه الدائرة التي يتصوّرونها يحاولون التشكيك فيه، وإيجاد الذرائع التعلّلية لرفضه والتكذيب به. هذه هي علّتهم الداخلية، وقد كشفها الله عزّ وجلّ بقوله: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ).

والله أعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير