البلاغة العربية وتحدّيات العصر
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[11 - 07 - 2006, 11:36 م]ـ
البلاغة وتحديات العصر
لم تكن البلاغة العربية في وقت من الأوقات بعيدة عن الحياة ومناشطها، بل شغلت الناس، واشتغلوا بها. ولم تكن البلاغة العربية بمنأى عن معترك الأمور دقيقها وعظيمها. ولم تكن البلاغة العربية قابعة في برج عاجيّ مشرفة على الناس من عل. بل كانت البوابة السمحة الشاملة لعلوم الإنسان، مرتبطة بالبيئة. وأنواعها وهموم الإنسان وآماله وآلامه، ورغباته وآهاته، وعقيدته، ونزعاته، وميوله، وثقافته، وحضارته. ومن هنا كانت بتعريفها المشهور: "مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال". والحال من خلال مجال البلاغة أو الرسالة المرسلة بين المتفنن والمتلقي. والحال الإنسانية ثلاثة أقسام: حال المتفنن، وحال المتلقي، وحال المتفنن والمتلقي معاً. وهناك حال واحدة من كلام الله تعالى (القرآن الكريم) وهي سعادة المتلقي في الدارين (الدنيا والآخرة) ويندرج قريباً من الحال الرباني (الحديث النبوي الشريف).
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن البلاغة نقل ما في نفس المتفنن إلى المتلقي بتأثير. وهذا النقل في وظيفتين واحدة دنيوية تتصل بفن القول العربي، وأخرى دينية تتصل بالكشف عن الإعجاز القرآني والبيان النبوي الشريف. وفي ضوء ما تقدّم نستطيع أن نحكم على أنّ البلاغة في تحدّ مستمرّ مع كلّ عصر، وزمان، ومكان. ولتوضيح ذلك نورد تحديات من تاريخ أدبنا على مرّ العصور، هذا الأدب الذي تتمثل فيه البلاغة العربية بصورها وإيماءاتها وظلالها. نرى النابغة الذبياني في العصر الجاهلي قد جعل شعره سياسة أمنية لقبيلته، من أعداء حولهم، من الغساسنة والمناذرة، الذين كانوا يتبعون الفرس والروم. فبلاغة الكلمة الشاعرة جنّب قوم النابغة ويلات هذه الحرب، وجلبت لهم الأمن والطمأنينة.
ثمّ إنّ الأعشى قيس - صناجة العرب - جعل من آلته وشعره بين القبائل خدمة غنائية نفسية بين الناس من خلال صوره الشعرية التي تتراقص على نغمات الشعر ونبرات الكلمات وإيقاع الوزن.
ولنا في المعلقات مظهر لتحدي البلاغة: إذ هي المعلقات دون غيرها التي علقت على أستار الكعبة، لمعالجتها قضايا لم تصل إليها باقي الأشعار، وهذه القضايا هي من تحديات العصر آنذاك، وهذا ما شفع لها أن تكون على أستار الكعبة، ومتعلقة بالقلوب لتأثيرها ونفاذها وقوة تأثيرها في المتلقي.
ثمّ إننا لا ننسى فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيانه عندما فاخر بأنه أفصح العرب.
وليس هذا إلا لأن فصاحته وبلاغته تحدٍّ للحياة وللناس ولأعدائه ولمريديه وللدعوة الإسلامية أمام أمم لا تعرف الإسلام ولا تؤمن به.
فكان التحدي صورة باهرة وقوة بارزة، لا ينكرها منكر، ولا يخفيها جنف أو حيف أو ظلم. ثمّ إنّ الخطب العالية في موضوعها وأسلوبها ومضمونها التي قالها علي بن أبي طالب كرّ الله وجهه، كم فيها من تحدّ للسياسة والحياة والعقيدة والناس والدعوة.
ولنا في مجلس الأمويين، ومنهم عبد الملك بن مروان، ما يبرز قيمة التحدي للبلاغة العربية في سياسة الكلام وسياسة الدولة وتوجيه الأمراء والأدباء والشعراء والنقاد. ثمّ إشباع حاجاتهم الفنية ومطالبهم الإجتماعية، ثمّ ما كان في مجلس سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة من محاورات ومناقشات أدبية نقدية وجدانية، كلها تحديات لوجه البلاغة المشرق.
ثمّ كتب دراسات الإعجاز القرآني والحديث النبوي الشريف من إعجاز القرآن للباقلاني وثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي والجرجاني، والمجازات النبوية للشريف الرضى.
وكذلك كتب الأمالي، والبيان والتبيين، والكامل، والعقد الفريد، كلها صور تحدّ للبلاغة العربية في إطار الأدب والخبر والمثل والقصة، ويردف هذا ما جاء في مقدمات كتب التفسير الكبرى من مثل تفسير الطبري والرازي والقرطبي ثمّ مقدمة بعض كتب الأصول مثل الإكسير في علم التفسير للطوفي البغدادي.
ثم ما جاء بعد ذلك في عصر الموسوعات العربية في صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأرب للنويري. إنها صور للبلاغة العربية في تحديها للعصر وللناس وللثقافة وللحضارة.
¥