تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الخلط والالتباس بين المقابلة والطباق]

ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[12 - 08 - 2006, 02:14 ص]ـ

المقابلة أسلوب في التعبير يقوم على مبدأ إقامة تضادّ بين الألفاظ والمعاني والأفكار والصور تحقيقاً لغايات بلاغية وقيم فكرية. وهي تُعدّ من الأساليب البارزة التي يجيء الاعتماد عليها عن قصد، وفي مواضع كثيرة من القرآن العظيم، كما أنّ الأدب العربي بشعره ونثره قد تميّز بها، وبخاصّة الشعر الجاهلي. ومع أنّ المقابلة في مذهب أغلب القدماء محسّن بديعيّ، غير أنّ المتأمّل في دِلالاتها واستخداماتها الكثيرة يرى أنّ لها أغراضاً أبعد من ذلك، فهي فنّ بلاغيّ، وطريقة في أداء المعنى لها آثارها وقيَمها البعيدة، كما أنّها تساهم في إبراز كثير من المعاني بما فيها من ثنائيّة وتضادّ.

وأصل المقابلة من قابل الشيء بالشيء مقابلة وقِبالاً إذا عارضه، فإذا ضممتَ شيئاً إلى شيء تقول: قابلتُه به. والمقابلة: المواجهة، والتقابل مثله وهو نقيض التدابر، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى في وصف أهل الجنة: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر: 47]. قال أهل التفسير: إنّ التقابل في هذه الآية هو التواجه بحيث لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، لأنّ الأَسِرَّة تدور بهم حيث داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون.

ومع أنّ أغلب آراء النُقّاد والبلاغيّين في مفهوم المقابلة متشابهة ومتقاربة، إلا أنّنا نلاحظ عندهم ثمّة خلطاً والتباساً بين معنى المقابلة والطباق، وهو خلط قد يعود إلى حرص أغلبهم على كثرة التقسيم والتفريع في الأساليب البلاغية. ولعلّ أوّل من تفطّن إلى الخلط والالتباس بين الطباق والمقابلة ابن رشيق القيرواني، يقول في كتابه (العمدة): "المقابلة أصلها ترتيب الكلام على ما يجب، فيعطي أوّل الكلام ما يليق به أوّله، وآخره ما يليق به آخره، ويأتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة". يُلاحظ في هذا التعريف أنّ ابن رشيق يفرّق بنظره الثاقب بين الطباق والمقابلة من حيث عدد الأضداد في الكلام. فالطباق عنده هو الجمع بين الضدّين فحسب، أمّا المقابلة فتختصّ بالجمع بين أكثر من متضادّين.

وإذا كان بعض النقاد والبلاغيين قد فرّق بين الطباق والمقابلة، كابن رشيق، فإنّ البعض الآخر جعلها نوعاً واحداً، كالعلويّ وابن الأثير والسيوطي، بل إنّ العلوي وابن الأثير لم يُحبّذا اسم الطباق واقترحا أنْ يُسمّى هذا النوع البلاغي مقابلة.

وإذا كان ابن رشيق قد أزال الخلط والالتباس في التفرقة بين المقابلة والطباق في عمدته، فإنّ العلوي قد أبدع في بيان تقسيمات المقابلة في طرازه، حيث قسّمها إلى أربعة أضرب:

الضرب الأول: في مقابلة الشيء بضده من جهة لفظه ومعناه، ومثاله قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل: 90] فانظر إلى هذا التقابل العجيب في هذه الآية ما أحسن تأليفه وأعجب تصريفه، فلقد جُمع فيه بين مقابلات ثلاث، الأولى منها مأمور بها والثلاث التوابع منهيّ عنها، ثمّ هي فيما بينها متقابلة أيضاً.

الضرب الثاني: في مقابلة الشيء بضدّه من جهة معناه دون لفظه، ومثاله قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام: 125] فقوله يهدي ويضلّ من باب الطباق اللفظي، وقوله يشرح صدره مع قوله يجعل صدره ضيّقاً حرجاً من الطباق المعنوي، لأنّ المعنى بقوله يشرح يوسعه للإيمان ويفسحه بالنور حتى يطابق قوله ضيّقاً حرجاً. وهكذا قوله تعالى: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5 - 7] فقوله كذب وصدق، وقوله اليسرى والعسرى من باب الطباق اللفظي، وقوله أعطى مع قوله بخل فإنّما هو من الطباق المعنوي لأنّ المعنى في أعطى كَرُمَ ليطابق بخل في معناه دون لفظه.

الضرب الثالث: في مقابلة الشيء بما يخالفه من غير مضادّة، وذلك يأتي على وجهين:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير