[التصوير القرآني للإنسان في سورتي "العصر والتين"]
ـ[ايام العمر]ــــــــ[16 - 09 - 2006, 05:29 م]ـ
التصوير القرآني للإنسان في سورتي "العصر والين"
د/ ابتسام حمزة عنبري (*)
الملخص
مادة هذا البحث جديدة لا تبلى رغم مر العصور والأزمان وتعاقب الدارسين والدراسات على اختلاف أنواعها وتعدد مشاربها واتجاهاتها ورغم كل محاولات الغائصين في بحر "القرآن الكريم" الخضم الهائج للعثور على درره النفيسة وجواهره الثمينة يبقى القرآن منبعاً ثراً وعطاء خصباً لكل من أراد النظر فيه والبحث في كنوزه.
وقد اعتمد القرآن الكريم كثيراً على التصوير في إعجازه الأسلوبي وبيانه التعبيري واتخذه أداة للتعبير عن كل المعاني والأحوال والمشاهدات المحسوسة وغير المحسوسة كما اعتبره وسيلة للإمتاع الفني لقارئه وبذلك كان البحث في التصوير موصلاً للكشف عن بعض جوانب الإعجاز القرآني وجماليات التعبير فيه.
وهذا البحث محاولة لتقصي بعض ملامح هذا التصوير في القرآن من خلال السياق الذي ورد فيه أو البناء العام الذي تجلى من خلاله وهو سياق القسم وذلك في سورتي " العصر " و "التين" كما يحاول البحث الكشف عن بعض جوانب الإعجاز الكامنة في الصلة أو الرابط في السياق بين (المقسم به)، وجواب القسم "موضوع التصوير" وهو "الإنسان" كما يحاول تلمس هذه الجوانب في اللغة النابضة بمعانيها وأصواتها وتراكيبها والتي جاء التصوير مستخدماً لها وهو في ذلك كله يتتبع كل ما من شأنه أن يوضح التصوير ويبرزه جلياً أمام الأذهان والعقول من كلام علمائنا المفسرين والدارسين لكتاب الله من قدماء ومحدثين.
بين يدي البحث:
القرآن الكريم – كتاب الله – الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكلامه الذي أعجز أرباب الفصاحة والبلاغة عن الإتيان بمثله أو ببعضٍ من مثله، كتاب حفل بالتشريع والتنظيم والأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار وصاغ كل ذلك المختلف في أسلوب مؤتلف خلب الألباب وأذهل العقول وأثَّر في سامعيه أبلغ تأثير "ببلاغة ألفاظه وجرس أصواته وكان له من الوقع في القلوب والتمكين في النفوس ما يذهل ويبهج ويغلق ويؤنس ويطمع ويؤنس ويضحك ويبكي ... " ([ i]). وقد بلغ هذا التأثير حداً جعل بعضهم يعزل هذا الوجه من أوجه الإعجاز عن الوجه البلاغي ([ ii]) فهو كلام قرآني بالمعنى "اللطيف الذي يتميز فيه العالم المتقدم ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز " ([ iii]).
وقد دارت حول القرآن الكريم دراسات شرعية كثيرة في عددها متنوعة في اتجاهاتها كما دارت حوله أيضاً دراسات أدبية كثيرة والدراسة الأدبية لأي موضوع من مواضيعه هي تعبير عن "تفاعل نقط عديدة في بؤرة واحدة" ([ iv]).
لقد اعتمد القرآن كثيراً في أسلوبه البليغ على "التصوير" بل اتخذه الأداة المفضلة في التعبير عن كل المعاني الذهنية والأحوال النفسية والمشاهد المنظورة وهو بذلك يعطيها حركة وحياة تتجلى من خلال الحوار وتعدد المناظر وتجدد الحركات فتؤثر في النفوس وتحدث الانفعالات ([ v]).
وبذلك يتحول التصوير من حلية إلى وسيلة ناجحة وطريقة ناجعة في رسم معالم النفس الإنسانية وأحوالها وأوضاعها وتحويل كل ما هو معنوي مجرد إلى محسوس ملموس يحقق فائدة معنوية ومتعة نفسية ويخاطب العقل والقلب معاً.
ولما كانت وظيفة الكلام الإبانة عن الأغراض وكلما كانت الإبانة عن هذه الأغراض قوية من خلال التصوير الدقيق والنظم الحسن كان الكلام شريفاً ([ vi]
ـ[ايام العمر]ــــــــ[16 - 09 - 2006, 05:30 م]ـ
وقد أسهم التصوير في الكشف عن بعض جوانب الإعجاز القرآني ([ vii]) وساعد على استرواح الجمال الفني الخالص في كتاب الله ومكن الدارسين من الوقوف بأنفسهم على ذلك الجمال والاستمتاع به في وجدانهم وشعورهم ([ viii])، ولا نقصد بالتصوير هنا حصره في المصطلحات البلاغية المعروفة سواء ما اتصل منها بعلم البيان ([ ix]) أو بعلوم البلاغة الثلاث ([ x]) - فقط – بل نعني به مفهوماً أوسع يشمل اللغة بألفاظها وأصواتها والعلاقات التي تربط اللفظة بما يجاورها من ألفاظ ([ xi]). إذ "الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار" ([ xii]) وهي "تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر" ([ xiii])، وعليه فالتصوير هو تمثيل وقياس لما ندركه بعقولنا عن الذي نراه بأبصارنا ([ xiv]) أي باللغة، فاللغة وسيلة للتصوير وهي ليست مجموعة من الألفاظ فقط بل مجموعة من العلاقات ([ xv]) التي تربط هذه الألفاظ بعضها ببعض وهذه الألفاظ بأصواتها ومعانيها المستقرة في الأذهان وإضفاء شحنات دلالية إضافية لها من خلال السياق والتركيب – كل ذلك – يوجد لوناً من التصوير قادراً على إيصال المعنى المراد وإحداث الأثر المطلوب في نفس المتلقي أياً كان مجال التصوير ونوعه. وبذلك يتحقق البيان بمفهومه "إحضار المعنى للنفس بسرعة إدراك " ([ xvi]).
ومن الموضوعات البارزة في التصويرات القرآنية "الإنسان" حيث كان خلقه وتكوينه ونشأته وطباعه وأحواله ومصيره ومواقفه المتباينة من قوة وضعف وإيمان وكفر وسمو وسفول وطاعة وعصيان ورضى وغضب مجالاً واسعاً للتصوير الأدبي الراقي وهو دائماً يصور فيه إنسانيتة لذا ترددت لفظة "إنسان" في القرآن في خمسة وستين موضعاً ([ xvii]) مما يرجح أن جانب الإنسانية في الإنسان لا أنسيته هي الجانب المعني دائماً فالإنسان هو المختص – دون بقية المخلوقات "بالعلم والبيان والجدل كما أنه الذي يتلقى الوصية ويحمل الأمانة فهو ليس فرداً من الإنس أو الناس وإنما مناط الإنسانية فيه معنوية ترقى به من مجرد الإنسية البشرية إلى حيث يحمل تبعات التكليف والإدراك والرشد" ([ xviii]). وقد رسم القرآن للإنسان نماذج مختلفة مرة يكون فيها صورة للجنس الإنساني كله ومرة صورة لأفراد منه مكرورين وفي الحالتين تصبح النماذج خالدة لا يخطئها الإنسان في كل مجتمع وكل حين ([ xix]).
¥