تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه الخاصية تعود بلا شك إلى طريقة اختيارها وسبكها وتناسب مخارجها. كما أن وضع الكلمة في الآية واختيار موقعها والتئامها مع جارتها له الأثر الكبير في إعطاء هذا الجرس الخاص والإيقاع المؤثر في نفس السامع.

ولا يقتصر وضع الكلمة في الآية على تأثيره في اللحن والنغم وإنما لهذا الموقع والوضع المناسب تأثير على المعنى وإبرازه، لذا نجد أن كثيراً من الباحثين اقتصروا على إبراز هذه الناحية دون الإشارة إلى ناحية اللحن والإيقاع.

والحقيقة أن الكلمات القرآنية لها دور وضرورة في السياق للدلالة على المعنى، كما أن لها دوراً في تناسب الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم لأحد الأمرين.

وفي الأمثلة التالية نرى اهتمام النظم القرآني في اختيار الكلمة المناسبة ذات الجرس المعين لأداء وظيفتها في الإيقاع كما أنها تؤدي في نفس الوقت دورها في تصوير المعنى وتشخيصه وإيضاحه على أتم صورة.

أ - اختير كلمة (حرث) لتشبيه النساء به دون الأرض أو الحقل أو الزرع وغيرها من المترادفات وذلك في قوله تعالى: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [سورة البقرة:223].

ولعل أختيار هذه اللفظة دون سواها لما فيها من لطف الكناية في ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص، وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث وذلك النبت الذي تخرجه الزوج وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح.

بينما هذه اللطائف لا تستفاد من كلمة (الأرض) إذ قد تكون جدباء لا تصلح لحراثة الزرع وكذلك الحقل فإنه لا يدل على عمل المالك فيه بل تدل الكلمة على شيء جاهز لا دخل فيه لبذر الحارث.

بذلك نلاحظ أن القرآن الكريم يتناول من الكلمات المترادفة أدقها دلالة على المعنى وأتمها تصويراً وتشخيصاً للصورة وأجملها وأحلاها إيقاعاً ووزناً بالنسبة إلى نظائرها.

ب - ومن هذا القبيل كلمة (أغطش) في قوله تعالى: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النازعات: 29].

فهي مساوية من حيث الدلالة اللغوية لأظلم، ولكن (أغطش) تمتاز بدلالة أخرى من وراء اللغة فالكلمة تعبر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ الركود وبدت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولا يفيد هذا المعنى كلمة (أظلم) إذ تعبر عن السواد الحالك ليس غير.

وحينما يصف القرآن الكريم دعوة امرأة العزيز للنسوة ـ اللاتي تحدثن منتقدات عن مراودتها يوسف عن نفسه ـ إلى جلسة لطيفة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاماً ولا شك. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهرة الجوع وتنقل بالفكر إلى المطبخ بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه، ولكن بماذا يعبّر إذن؟ وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام ولا تمس الصورة بأي تعكير أو تشويه؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيراً عجيباً رائعاً حيث قال: (لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [سورة يوسف:31].

كَرِيمٌ (متكأ) كلمة تصور من الطعام ذلك النوع الذي إنما يقدّم تفكهاً وتبسطاً وتجميلاً للمجلس وتوفيراً لأسباب المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والأتكاء. ولعلها أدركت بغريزتها النسائية ما سيؤول إليه أمرهن فاختارت هذا المتكأ مما يحتاج فيه إلى سكين (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا).

وأحياناً يكون الاختيار للكلمة في مكان دون أماكن ويستبدل به غيرها لسرّ لطيف بالرغم من كون الموضوع واحداً، لكن الكلمة المختارة تعطي مدلولاً خاصاً لا يوفيه حقه إلا استعمال الكلمة القرآنية المختارة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير