إلا أن العلامة القاضي أبا بكر بن العربي رحمه الله تعالى جاء في كتابه " العواصم من القواصم " , كلام قد يدل ظاهره أنه يذهب إلى إنكار هذا الحديث و يبالغ في ذلك أشد المبالغة , فقال في " عاصمة " (ص 161): " و أما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب , فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حرب , ما كان شيء مما ذكرتم , و لا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث , و لا جرى ذلك الكلام , و لا شهد أحد بشهادتهم , و قد كتبت شهادتهم بهذا الباطل , و سوف تسألون ".
و يشير بقوله " الشهادة " إلى ما كان ذكره من قبل في " قاصمة " (ص 148): " فجاؤا إلى ماء الحوأب , و نبحت كلابه , فسألت عائشة ? فقيل لها: هذا ماء الحوأب , فردت خطامها عنه , و ذلك لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أيتكن صاحبة الجمل الأدبب التي تنبحها كلاب الحوأب , فشهد طلحة و الزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب , و خمسون رجلا إليهم , و كانت أول شهادة زور دارت في الإسلام ".
قلت: و نحن و إن كنا نوافقه على إنكار ثبوت تلك الشهادة , فإنها مما صان الله تبارك و تعالى أصحابه صلى الله عليه وسلم منها , لاسيما من كان منهم من العشرة المبشرين بالجنة كطلحة و الزبير , فإننا ننكر عليه قوله " و لا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث "! كيف و هو قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح في عدة مصادر من كتب السنة المعروفة عند أهل العلم ?!
و لعل عذره في ذلك أنه حين قال ذلك لم يكن مستحضرا للحديث أنه وارد في شيء من المصادر , بل لعله لم يكن قد اطلع عليها أصلا , فقد ثبت عن غير واحد من العلماء المغاربة أنه لم يكن عندهم علم ببعض الأصول الهامة من تأليف المشارقة , فهذا ابن حزم مثلا لا يعرف الترمذي و ابن ماجه و لا كتابيهما! و قد تبين لي أن الحافظ عبد الحق الإشبيلي مثله في ذلك , فإنه لا علم عنده أيضا بسنن ابن ماجه , و لا بمسند الإمام أحمد , فقد رأيته يكثر العزو لأبي يعلى و البزار , و لا يعزو لأحمد و ابن ماجه إطلاقا. و ذلك في كتابه " الأحكام الكبرى " الذي أنا في صدد تحقيقه بإذن الله تعالى.
فليس من البعيد أن أبا بكر بن العربي مثلهما في ذلك , و إن كان رحل إلى الشرق , و الله أعلم.
و لكن إذا كان ما ذكرته من العذر محتملا بالنسبة إلى أبي بكر بن العربي فما هو عذر الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ محب الدين الخطيب الذي علق على كلمة ابن العربي في " العاصمة " بقوله: " ... و أن الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم و زعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء - ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة ... "!
كذا قال: و كأنه عفى الله عنا و عنه , لم يتعب نفسه في البحث عن الحديث في دواوين السنة المعتبرة , بل و في بعض كتب التاريخ المعتمدة مثل " البداية " لابن كثير , لو أنه فعل هذا على الأقل , لعرف موضع الحديث في تلك الدواوين المعتبرة أو بعضها على الأقل , و لكنه أخذ يحسن الظن بابن العربي و يقلده , فوقع في إنكار هذا الحديث الصحيح و ذلك من شؤم التقليد بغير حجة و لا برهان.
بيد أن هذا مع بعده عن الصواب , و الإنحراف عن التحقيق العلمي الصحيح , فإنه هين بجانب قول صديقنا الأستاذ سعيد الأفغاني في تعليقه على قول الحافظ الذهبي المتقدم في " سير النبلاء ": " هذا حديث صحيح الإسناد ": " في النفس من صحة هذا الحديث شيء , و لأمر ما أهمله أصحاب الصحاح , و في " معجم البلدان " مادة (حوءب) أن صاحبة الخطاب سلمى بنت مالك الفزارية و كانت سبية وهبت لعائشة , و هي المقصودة بخطاب الرسول الذي زعموه , و قد ارتدت مع طلحة , و قتلت في حروب الردة , و من العجيب أن يصرف بعض الناس هذه القصة إلى السيدة عائشة إرضاء لبعض الأهواء العصبية ".
و في هذا الكلام مؤاخذات:
¥