وقوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً)) * ((يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) * ((إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) * ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً)) [الفرقان:68 - 71].
فإذا كانت التوبة مقبولة لمن أشرك في الدعاء، وارتكب كبائر الذنوب العملية فإنها تقبل ممن ابتدع حتى ولو خرج ببدعته عن الإسلام.
وقوله سبحانه وتعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].
وتدل الآية على أنه لا ييأس المذنب من مغفرة الله سبحانه وتعالى، ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، ويدخل في ذلك كل الذنوب: الشرك والبدعة والكبائر وغيرها من الذنوب.
ولا شك أن الشرك أعظم الذنوب وأكبر الآثام، وهو الذي لا يغفر لصاحبه إذا مات عليه مطلقاً .. ولكن الله بسط غفرانه وقدم رحمته فقبل توبة المشرك إذا تاب كما قال سبحانه وتعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].وكما قال جل وعلا: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) * ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:73 - 74].
فإذا كانت التوبة مفتوحة للكافر والمشرك، ومقبولة منهما فكيف بالمسلم المبتدع؟
والمبتدع الذي تخرجه بدعته عن الإسلام ليس كالكافر الأصلي، فإذا قبلت توبة الكافر الجاحد فتوبة المبتدع أولى، ولا فرق بين الداعية وغيره كما سيأتي.
أما الأحاديث الدالة على هذا المعنى فهي كثيرة أيضاً ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه) ([5]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ([6]).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ... ) ([7]).
فمجموع هذه الأدلة وغيرها مما يشبهها تدل دلالة قطعية على أن التوبة غير محجورة على أحد ولا ممنوعة من أحد مهما كان ذنبه، وأن التائب الصادق مغفور له ومعفي عنه مهما عمل إذا استكمل شروط التوبة، سواء كان مشركاً ثم تاب أو مبتدعاً أو صاحب كبيرة.
المطلب الرابع: في دلالة الواقع على أن المبتدع يمكن أن يتوب:
فقد ورد في تاريخ الإسلام وتراجم الأعلام وغيرها ما يدل على وقوع التوبة من المبتدع، فمن ذلك:
1 - توبة أربعة آلاف من الخوارج بعد أن ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه، مع أن الخوارج من أصحاب البدع الغليظة، وقد ورد فيهم من الأحاديث ما لم يرد في غيرهم من الفرق، فهم كلاب النار، وهم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وهم الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وبشر من قاتلهم أو قتلوه بالجنة. ومع كل هذا فقد تاب منهم هذا الجم الغفير، وكانوا قبل ذلك على ضلالة يقاتلون عنها، ولم يقل أحد من الصحابة أن توبتهم غير مقبولة أو أن التوبة محجورة عنهم.
¥