إن هذا الذي صدر عن الفاروق رضي الله عنه ليس شكاً تساوى فيه الإيمان والكفر وانتكس اليقين وغاب الحق، بل هو مظهر من مظاهر الفاروقية التي هي أعظم وأجلى ما يتصف به عمر رضي الله عنه، وإن الموقف كله مظهر رائع من مظاهر النبوة ودليل من أجلى دلائلها.
وقد غاب عن الكاتب فهم النص في ضوء النصوص الأخرى الكثيرة المتواترة التي تبرز صفات الشخصية التي يريد تحليل موقفها.
نعم إنه شكّ، ولكن في ماذا؟ هل هو في النبوة والدين والوحي واليقين؟! حاشا وكلا أن يشك الفاروق الذي وصفه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: ((والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك غير فجك)) (البخاري 3683)
وبقوله: ((بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قُمص، فمنها مايبلغ الثدي ومنها مايبلغ دون ذلك، وعُرض علي عمر وعليه قميص اجترّه، قالوا: فما أولته يارسول الله؟ قال: الدين)) (البخاري 3691).
وبقوله: ((بينما أنا نائم شربت _ يعني اللبن _ حتى أنظر إلى الري ّ يخرج من ظفري ثم ناولت عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم)) (البخاري 3681)
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تملؤ باباً كاملاً في كتب الفضائل في كتب الحديث.
وهو الصحابي الجليل صاحب الموافقات التي وافق فيها مراد رب ِّ العالمين ونزل الوحي من السماء يؤيد رأي عمر رضي الله عنه، وأ شهرها قضية أسرى بدر، وتشريع الحجاب، واتخاذ مقام إبراهيم مصلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (الترمذي 3682)
وفي غياب معنى الفاروقية في شخصية عمر رضي الله عنه في فكر الكاتب تسنى له أن يفسر الشك بأنه في النبوة والدين، وهذا منهج عجيب في البحث والنظر.
وقد غفل الكاتب أيضاً عن طبيعة الأحكام النبوية وتعامل الصحابة معها، فمن المعلوم أنهم كانوا عند مناقشة النبي صلى الله عليه وسلم في أي موضوع يستفسرون عن كونه أمراً اجتهادياً تدخل فيه الشورى وتتداوله الآراء للوصول إلى أصوبها كما قال تعالى: ((وشاورهم في الأمر)) (آل عمران 159) ((وأمرهم شورى بينهم)) (الشورى 38)
أم أنه أمر موحى به من عند الله ينبغي القطع والتسليم به ليكون هذا الإذعان مظهراً من مظاهر العبودية الخالصة التي تميز المؤمنين عما عداهم
يوضح هذا مارواه أصحاب السير (ابن هشام 2/ 66) عن اشارة الحباب بن المنذر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول عند الماء في معركة بدر، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معركة أحد على خلاف رأيه في التحصن بالمدينة والقتال فيها وذلك نزولاً عند رأي الأكثرية. ومن ذلك عدم رضى سادة الأوس والخزرج عن إعطاء قبيلة غطفان شطر ثمار المدينة ليرجعوا عن التحالف مع قريش في غزوة
الخندق وقالوا: ((والله لانعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا)) (فقه السيرة للغزلي /325)
أما في صلح الحديبية فقد كان الأمر مختلفا ً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستشر فيه أصحابه، ولم يترك تقدير الأمر للنظر المعتاد بل كان الوحي هو الموجه والقائد وأراد الله أن ينصر نبيه نصراً عزيزاً ويفتح عليه فتحاً مبيناً يتعالى على الأسباب البشرية.
التي أمر الناس باتخاذها وكانت سائدة في أذهان جمهور الصحابة، بسبب ماعهدوه من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم في شؤون الحرب والسلم التي سبقت حين كان يرجع إليهم، وربما ينزل على رأيهم وهو له كاره كما في الخروج من المدينة في أحد، وكان في هذا الموقف ابتلاء عظيم لجمهورهم الذي يرى إجحاف المعاهدة بحق المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد عليهم قولته الخالدة: ((أنا رسول الله ولن يضيعني ولن أخالف أمره)) (فقه السيرة 359)
¥