تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

حتى دعاه ذلك لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف مشهورة وقد قال فيما رواه البزار (فتح الباري 5/ 346): ((اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أردُّ أمر رسول الله برأيي، وماألوت عن الحق) والجملة الأخيرة مصرحة بحقيقة موقفه في ذلك.

ثالثاً: تعامل الكاتب مع الروايات يوضح بعده عن منهج البحث في المنقولات الذي قعده علماء المسلمين وتميزت به الأمة على سائر الأمم، وعرف بعلم مصطلح الحديث، ولو كان على صلة بهذا المنهج لما تجرأ على تكذيب الروايات الصحيحة بمجرد الظن ولسار في ذلك مسيرة علماء الحديث في الترجيح، وفي صنيعه هذا طعن بمبدأ الرواية وأصولها جملة واحدة، بل تجاوز ذلك إلى تقطيع الرواية الواحدة وقبول مايحلو له ورفض مالايحلو، فهو يرى عدم صحة امتناع الصحابة عن المسارعة إلى إنقاذ أمر الرسول مباشرة، وأن القصد من رواية ذلك التستر على موقف الفاروق بإدخال الصحابة في الموقف نفسه بما فيهم علي رضي الله عنه، وهنا تكمن إشارة لا تخفى على اللبيب.

ولو أمعن الكاتب في الروايات ووقائع السيرة لتبين له أن الموقف لم يكن للفاروق فقط بل كان موقف الجميع إلا الصديق رضي الله عنه، بسبب النظر إلى القضية بعين الموازين والأسباب المادية والغفلة عن جوهر قضية الحديبية المختلف عما سبقه من المواقف المشابهة في بدر وأحد والخندق كما تقدم.

وما كان من عمر إلا التميز بالجرأة والمراجعة، وكانت فضيلة عظيمة للصديق رضي الله عنه، تضاف إلى مظاهر الصديقية التي لم يلحقه فيها أحد من كبار الصحابة بما فيهم الفاروق رضي الله عن الجميع.

وقد زاد الكاتب إلى تكذيب الصحيح اعتماد الروايات المردودة كرواية الواقدي ((ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجت))

والواقدي كما هومعلوم مردود الرواية عن علماء الحديث، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (498): ((متروك مع سعة علمه))

فضلاً عن تناقض الرواية مع واقع الحال الثابت المتواتر القطعي بعشرات الروايات المعارضة.

وهذا كله أثر من أثار البعد عن منهج البحث والخبط في المسألة خبط عشواء.

رابعاً: أما تحكيم الفهم الخاص من جهة الدلالة دون الرجوع إلى القواعد أو كلام الشراح، فهو الطامة الكبرى، وبهذه الطريقة لايبقى عندنا أية قضية ثابتة لا خلاف فيها، فما كان واضحاً على حد قول ابن حجر يصبح ملتبساً عند الكاتب وأمثاله.

وقد قيل: من أصعب المشكلات توضيح الواضحات.

ولله در القائل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم

فامتناع الصحابة عن الامتثال أولاً ثم انصياعهم لما رأوا الفعل النبوي يوقظهم من الذهول الذي اعتراهم لايحتاج إلى كبير منا ضلة.

فحالة الذهول وهم يرون الشروط المجحفة التي نصت عليها المعاهدة كانت مستولية عليهم، وكان ظنهم أنهم سيدخلون المسجد الحرام في عامهم ذاك ولابد، وعرا المسلمين وجوم ثقيل لهذه النهاية وزاغت نظراتهم لما ركبهم من الحرج المفاجئ، ولما جاءهم الأمر القولي بذبح الهدي وحلق الشعر لم تنشط أعضاؤهم للانقياد، لأن الأمر القولي يحتمل احتمالات عديدة يتراخى معها البدار إلى العمل، وربما كانوا ينتظرون نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو تعديله بالإذن بدخول مكة ذلك العام لإتمام النسك، لاسيما وأن النسخ كان واردا في الأحكام.

أما عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم بنحر هديه وحلق رأسه بإشارة أم سلمة رضي الله عنها فقد تبين لهم أن الأمر قد قضي تماماً وأنه لا رجاء لهم فيما أملوه، ولا مناص من الانقياد، فزال عنهم الذهول وأحسّوا أنهم واقعوا معصية لأمر النبي بترك المبادرة فقاموا عجلين ينحرون هديهم ويحلق بعضهم رأس بعض حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم الذي لحقهم.

إنها ليست لعبة موازنات إذن، وليست نصوص الدين والسيرة والحديث مجموعة أكاذيب أو افتراءات وتبريرات لهذا أو ذلك، ولا سياقاً ملفقاً على طريقة القص واللصق في الحاسوب.

ألم يقل تعالى في الحديث عن غزوة الأحزاب عندما اضطرب المؤمنون المحاصرون: ((إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)) (الأحزاب 11)

ألم يذهل الصحابة ويضطربوا لما سمعوا بوفاة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم وكان أشدهم اضطراباً عمر حتى سل سيفه وهدد كل من يقول بموت رسول الله؟

ولما قرأ الصديق قوله تعالى: ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)) (آل عمران 144)

أقعد فما تحمله رجلاه وكأنه يسمع الآية أول مره وأدرك أن رسول الله قد قبض.

ولله در شاعر النيل حافظ إبراهيم إذ يقول في عمريته الشهيرة:

أنساك حبك طه أنه بشر يجري عليه شؤون الكون مجريها

ذهلت يوماً فكانت فتنة عمم وثاب رشدك فانجابت غواشيها

والخلاصة أن المشكلة ليست خاصة بالكاتب وحده بل هي مشكلة فكرية منهجية عامة في هذا العصر في التعامل مع نصوص التراث نقلاً ودلالة وأهم مظاهرها:

1 – الخوض في القضايا الواضحة التي لاخلاف فيها بغير علم صحيح ولا فكر سديد وتشكيك الجمهور بها وزعزعة الثقة بالمسلّمات.

2 – التعامل مع الروايات وفق منهج ذاتي تلفيقي يتضمن اعتماد المردود ورفض الثابت بعيداً عن منهج النقد الحديثي في المنقولات، بما يرفع الثقة بها جملة، ويفتح أبواب التشكيك على مصاريعها.

3 – الخبط في الفهم والاستنباط بعيداً عن مناهج الاستدلال، بما يمهد لفوضى فكرية شاملة في مسائل الدين عمو ماً والحديث والسيرة والمنقولات خصوصاً ولا منجى من ذلك كله إلا بالعودة إلى العلم ومناهجه التي شادها أسلافنا العظماء، وأن يقيض الله تعالى للأمة من يفرق بين الحق والباطل ويسير على خطى فاروق الأمة أبي حفص عمر.

((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض)) (الرعد 17)

صدق الله العظيم

عبد القادر الخطيب الحسني

http://al-hodaa.com

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير