ثامنا: قلت: (وأقول: لو لم تثبت تلك العبارةعنه فإن الواقع يصدقه كما يعرف ذلك من استقرأ كلام البخاري رحمه الله تعالى، نص علىذلك العراقي وابن كثير والسبكي والذهبي وغيرهم، كما قرأت.) , و أقول من استقرأ صنيع البخاري عرف أن هذه العبارة لا تدل عنده بالضرورة على الجرح الشديد , و ذكرت لك الأدلة على ذلك , و للتذكير ببعضها مع أنني لا أحب التكرار , قال الشيخ الجديع: (وقالها البخاري في (إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة)، ولم يقله غير ممن سبقه، بل قال أحمد بن حنبل: " ثقة "، وقال ابن معين: " صالح "، لكن وافقه عليه من أقرانه أبو حاتم الرازي، وفسَّره فقال: " شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يُحتج به، منكر الحديث "، فكأنه يقول: له أحاديث مناكير، ولم يغلب ذلك على حديثه إلى درجة أنه صار لا تحل الراوية عنه.
وهذا ابن عدي يقول بعدما حرَّر مروياته: " له غير ما ذكرته من الأحاديث، ولم أجد له أوحش من هذه الأحاديث، وهو صالح في باب الرواية، كما حكي عن يحيى بن معين، ويكتب حديثه مع ضعفه ".
قلت: وكان البخاري قال مرة: " عنده مناكير "، وهذه أظهر في أمره من الإطلاق المتقدِّم، لكن دل هذا على أن تلك العبارة من البخاري لا تعني دائماً أن يكون الراوي الموصوف بذلك ينزَّل منزلة المتروك الساقط، والذي هو مقتضى عبارة: " لا تحل الرواية عنه ".). و ارجع لتمام كلام الشيخ الجديع لترى باقي أدلته.
تاسعا: قلت: (لا أدري متى صار جديع مرجعاً يعول عليه في هذا الفن ويعتمد، ويقرن بالشيخ المحدثعبد الله السعد، مع علمنا جميعا الاختلاف الكبير بينهما في المنهج، ويبدو أنك تنتحلمنهجه والله أعلم، أما شيخنا عبد الله السعد فليس ما تقرره هو منهجه، وإن حسن الشيخالحديث كما تزعم،).
أقول هذه أعجوبة من أعاجيبك و استخفافك بشيخنا الجديع لا يجرح إلا فيك أنت لأن الجميع يعلمون مكانة الشيخ الجديع في علم الحديث , و اسأل شيخنا عبد الله السعد , و قد سأله أحد الطلبة هنا عن كتابه (تحرير علوم الحديث) و أثنى عليه , و إذا كان الشيخ السعد يقوي الحديث فلا شك أن شواهده ليست منكرة عنده و بالتالي فهو يتفق معنا و يخالفكم.
عاشرا: قولك: (لاتحمل من ضعفه على أن قصده (متروك وساقط) أيضاً، وهذا من أكبر الأخطاء المنهجيةالتي ألاحظ أنك ترتكبها، وبهذا أكون أجبت عن كثير من كلامك وأمثلتك التي تورهابأقصر عبارة وأوجزها، وبدون مناقشة كل واحد على حدة فتنبه، والحر تكفيهالإشارة.) , كلها دعاوي لم تأت بأي دليل عليها من كلامي.
و بالنسبة لعبارة (ليس بالقوي) , فليس هناك دليل واحد على أن أحد النقاد استعملها و قصد بها الضعف الشديد , و ما ذكرته من أمثلة لا يصلح لذلك.
المثال الأول: خارجة بن مصعب , و للأسف فلقد انتقيت من أقوال النقاد و ذكرت الأقوال الشديدة فيه فقط , فلم تذكر قول أبي حاتم مثلا و هو من المتشددين جدا: (مضطرب الحديث ليس بقوي يكتب حديثه ولا يحتج به لم يكن محله محل الكذب.) , و ذكره بعض النقاد بالضعف فقط , و قال مسلم سمعت يحيى بن يحيى وسئل عن خارجة فقال مستقيم الحديث عندنا ولم يكن ينكر من حديثه إلا ما يدلس عن غياث بن ابراهيم فانا كنا قد عرفنا تلك الاحاديث فلا نعرض لها , كما أن قول البخاري: (تركه ابن المبارك ووكيع) يدل على أنه ليس بمتروك عند الجميع , إنما قصر ذكر الترك عليهما فقط. و لا يوجد ما يدل على أنه يوافقهم كما تزعم. و الأهم من ذلك أن الترمذي قال عنه:
(لَيْسَ بِالْقَويِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا) , و واضح أن هذا مقتصر على الأصحاب فقط و ليس عامة أهل الحديث و هذا بخلاف ما قاله في حماد بن أبي حميد و الذي قال فيه: (ليس بالقوي عند أهل الحديث).
المثال الثاني: بشر بن رافع , قال الترمذي عنه: ليس بالقوي في الحديث , و هنا يقول رأيه الخاص فقط و ليس رأي أهل الحديث أو رأي البخاري و هو إمام له اجتهاده الخاص الذي يمكن أن يخالف فيه غيره بما فيهم شيخه البخاري , كما أن عبارت النقاد في بشر بن رافع ليس فيها ما يدل ضعفه الشديد , و يبدو أن الخلل في فهمك أنت لأن حتى عبارة البخاري (لا يتابع في حديثه) و التي فسرتها أنت على مزاجك الخاص و دون دليل أنه (فهو في مرتبة من لا يعتد به فيالمتابعات عند البخاري) لا تدل على ذلك , إنما تدل على أن له تفردات يتفرد بها , قال الشيخ الجديع عن عبارة (لا يتابع على حديثه):
(قال ابن القطان الفاسيُّ: " يُمسُّ بهذا من لا يعرف بالثقة، فأما من عرف بها فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه ".
قلت: والأمر كما قال، وأكثر من استعمل هذه العبارة من المتقدِّمين البخاري، وإذا قالها في راو فإنه يعني تفرده بما لا يعرف إلا من طريقه، وفي الغالب هو حديثٌ معيَّنٌ ليس لذلك الراوي سواه، ولذا فهذه اللفظة إذا قالها البخاري في راو فهو تضعيف؛ لأنها غالباً إمَّا في مجهول أو مُقلِّ، ومن كان بهذه المنزلة ولا يروي إلا حديثاً واحد يتفرد به، فلا يحتج به.
وتبعه على استعمالها العقيلي، وأطلقها على جماعة من الرواة هم بهذه المثابة.
لكنه ذكر بعض الثقات أيضاً، وقال فيهم مثل ذلك، وربما أورد الحديث مما يعنيه أن ذلك الراوي لم يتابع عليه.
فقالها مثلاً في سعد بن طارق الأشجعي، وسلام بن سليمان أبي المنذر، وعقبة بن خالد السَّكونيِّ، ويحيى بن عثمان الحربي، وغيرهم، وهؤلاء ثقات، والتفرد لا يضر في قبول ما رووا.
وقال في (عبد الله بن خَيرانَ البغدادي): " لا يتابع على حديثه "، فتعقَّبه الخطيب فقال: " قد اعتبرت من رواياته أحاديث كثيرة، فوجدتها مستقيمة تدل على ثقته ".
فمثل هذا من العُقيلي يتثبَّت فيه، ولا يُسلَّم ابتداء كسبب في رد حديث الموصوف به.).
المثال الثالث: يقال فيه ما قيل في الثاني.
و بهذا يتضح أن عبارة) ليس بالقوي) لا يمكن أن تأتي مفردة بمعنى الضعف الشديد أبدا عند أحد من النقاد.
¥