تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا يخفى على الخبير بهذا العلم الشريف أن هذا الاختلاف إنما يدل على أن المختلف عليه وهو داود بن أبي هند لم يضبط هذا الحديث ولم يحفظه جيدا، ولذلك اضطرب فيه على الوجوه الثلاثة التي بينتها، ولا يمكن أن يكون ذلك من الرواة عنه لأنهم جميعا ثقات، فكل روى ما سمع منه، وإذا كان كذلك فالاضطراب دليل على ضعف الحديث كما هو مقرر في علم مصطلح الحديث لأنه يشعر بأن راويه لم يحفظه.

هذا ما تحرر لدي أخيرا، وأما الدارقطني فقد أعله بالإرسال فقال كما في " شرح مسلم " للنووي:

انتهى حديث ابن مسعود عند قوله: " فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم "، وما بعده من قول الشعبي، كذا رواه أصحاب داود الراوي عن الشعبي: ابن علية وابن زريع، وابن أبي زائدة وابن إدريس وغيرهم. هكذا قال الدارقطني وغيره،

ومعنى قوله: إنه من كلام الشعبي أنه ليس مرويا عن ابن مسعود بهذا الحديث، وإلا فالشعبي لا يقول هذا الكلام إلا بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

قلت: قول الشعبي: " وسألوه الزاد ... " صريح في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا داعي لقول النووي: " فالشعبي لا يقول ... " إلخ. فإن مثل هذا إنما يقال فيما ظاهره الوقف كما لا يخفى.

العلة الأخرى: الاضطراب في متنه أيضا على داود، فعبد الأعلى يقول عنه:

كل عظم ذكر اسم الله عليه " وتابعه على ذلك إسماعيل بن علية وابن أبي زائدة عند أحمد وعبد الوهاب بن عطاء عند الطحاوي.

وخالف هؤلاء وهيب بن خالد ويزيد بن زريع عند الطيالسي وعند أبي عوانة عن يزيد وحده فقالا: " كل عظم لم يذكر اسم الله عليه ".

واختلفوا على إسماعيل بن علية فرواه أحمد عنه كما سبق، وتابعه علي بن حجر عن إسماعيل عند مسلم، وخالفه الترمذي فقال: حدثنا علي بن حجر به باللفظ الثاني: " لم يذكر .. ".

وهذا الاختلاف على داود في ضبط متن الحديث مما يؤكد ضعفه، وأن داود لم يكن قد حفظه.

ثم رجعت إلى ترجمته من " التهذيب " فوجدت بعض الأئمة قد صرحوا بهذا الذي ذكرته فيه، فقال ابن حبان:

كان من خيار أهل البصرة، من المتقنين في الروايات، إلا أنه كان يهم إذا حدث من حفظه.

وقال أحمد:

" كان كثير الاضطراب والخلاف ".

قلت: واضطراب داود في هذا الحديث من أقوى الأدلة على هذا الذي قاله فيه الإمام أحمد، فرحمه الله، وجزاه خيرا، ما كان أعلمه بأحوال الرجال!

وخلاصة الكلام في هذا الحديث أنه ضعيف للاضطراب في سنده ومتنه، ولم أجد له شاهدا نقويه به، بل هو مخالف بظاهره لحديث أبي هريرة: " أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال:

من هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة فقال: ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة " فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت معه، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن - فسألوني الزاد، فدعوت الله أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما، وفي لفظ: طعاما ".

أخرجه البخاري (7/ 136) والطحاوي (1/ 74) والبيهقي (1/ 107 - 108).

قلت: ووجه المخالفة أن ظاهره أن العظم والروثة زاد وطعام للجن أنفسهم، وليس شيء من ذلك لدوابهم، والتوفيق بينه وبين حديث ابن مسعود بحمل الطعام فيه على طعام الدواب كما فعل الحافظ في " الفتح " وتبعه الصنعاني في " سبل السلام " (1/ 123)، لا بأس به لوثبت حديث ابن مسعود بإسناد آخر بلفظ يغاير بظاهره اللفظ السابق، وهو:

أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل،

أو بعرة أو روثة، فقلت: يا رسول الله، وما يغني ذلك عنهم؟ قال: إنهم لن يجدوا عظما، إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة.

أخرجه ابن جرير في " تفسيره " (26/ 32 ـ طبع البابي الحلبي) عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود: حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن، قال: أجل، قال: فكيف كان؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير