وإذا ورد الحديث عن شيخين، عن أحدهما مرسلا، وعن الآخر مسندا، كأن يكون عن هشام بن عروة مرسلا، وعن مالك متصلا، فأتى راو فرواه، عن هشام متصلا، وعن مالك مرسلا، فإنه وهم عند نقاد الحديث، مع أن الحديث هو هو، ولكن دقة نقاد الحديث تأبى أن يمر هذا الخطأ دون التنبيه عليه.
ولهم في رواية الحديث بالمعنى، تفصيل، لا يتسع المجال لذكره، ملخصه أن رواية الحديث بالمعنى، تقبل من الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن تلاهم من الطبقات المتقدمة، حيث الاحتجاج بلغتهم مقبول، فلم تسر العجمة للألسنة بعد، فضلا عن تحرزهم في نقل الحديث بألفاظه، إن تمكنوا، فإن لم يكن الأمر كذلك، فإن فصاحتهم تجعل الناظر يطمئن لتصرفهم في ألفاظ الحديث، إن لم يكن مما يتعبد بلفظه أو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للتصرف فيها أيا كان الناقل، خلاف من تلاهم من الطبقات المتأخرة، ممن فشا فيهم اللحن، وسرت العجمة إلى ألسنتهم، فهم ممنوعون من رواية الحديث بالمعنى، إلا لضرورة ملجئة، كفتوى أو استدلال على مسألة لا يحضرهم دليلها بلفظه، وأما روايته بالمعنى، (بمعنى قبوله مطلقا وكتابته بألفاظهم التي تصرفوا فيها)، فهي غير مقبولة، فضلا عن كونهم لا يروون إلا ما ثبت لفظه عندهم، فهم يتحرزون في الرواية بالمعنى أكثر ممن سبقهم، لسراية العجمة، وفشو اللحن، كما تقدم، والأحاديث قد جمعت في عصرهم في مصنفات معتمدة فعلام الرواية بالمعنى وقد دونت الأحاديث، وعرفت ألفاظها، بل وميز النقاد الزيادات في كل طريق جاء منه الحديث، وحكموا عليها قبولا أو ردا، والله أعلم.
ويحتاط كثير من النقاد في مسألة الرواية، فتراهم، لا يحدثون إلا من كتبهم المضبوطة المصححة المعتمدة، ولو كانوا حفاظا، كما أثر عن أحمد، رحمه الله، حيث كان لا يحدث إلا من كتابه، وإن كان في مجلس مذاكرة، وهو مما يتسامح فيه، وأراد أحد الرواة أن يسمع منه حديثا أمر بإحضار كتبه حتى يسمع الراوي الحديث منها، زيادة في الاحتياط، والنقاد يعنون كثيرا بمسألة حفظ الكتب وضبطها، فلا يقبل أي كتاب، وإنما يقبل كتاب من كتب عن شيخه ثم قابل عليه، أي راجع الحديث من لفظه، أو على أصل صحيح معتمد، ثم حفظ كتابه فلم يعره لأحد، ولم يفرط فيه، ولم يتخذ وراقا غير مأمون، يدس عليه ما ليس من كتابه، كما حصل مع سفيان بن وكيع، رحمه الله، حتى ترك الناس الرواية عنه لأجل ذلك، أو كما حصل مع عبد الله بن صالح، رحمه الله، كاتب الليث، حيث دس عليه جاره كتبا ليست من كتبه لتشابه خطهما فكان يكتب كتبا ويدسها على ابن صالح، فتفطن النقاد لذلك، وهذا مما يبرز مدى دقة وأمانة المحدثين في تحمل وتأدية الحديث كما سمعوه دون تصرف بزيادة أو نقصان، والله أعلم.
ويهتم المحدثون بمعرفة أصح الأسانيد، إما مطلقا، في قول، أو إلى صحابي معين، على القول الراجح، فلا يحكم لسند ما بأنه الأصح مطلقا، فتراهم يقولون على سبيل المثال:
أصح الأسانيد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر.
وأصح الأسانيد إلى جابر رضي الله عنه: الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر.
وأصح الأسانيد إلى ابن عمر رضي الله عنهما: مالك عن نافع عن ابن عمر.
وأصح الأسانيد إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي، في قول.
وأصح الأسانيد إلى ابن مسعود رضي الله عنه: الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود، في قول.
وهكذا ......
بل ويهتمون بذكر أوهى الأسانيد، فتراهم يقولون على سبيل المثال:
أوهى الأسانيد إلى ابي بكر الصديق:
صَدَقَة الدَّقِيقي، عن فَرْقَدٍ السَّبَخي، عن مُرَّةَ الطَّيَب، عن أبي بكْر.
وأوهى الأسانيد إلى ابن عباس رضي الله عنهما:
وجُوَيْبِر، عن الضحاك، عن ابن عباس، وهكذا ........
ويهتمون بتقعيد قواعد يسهل بها معرفة الرواة المهملين في الأسانيد، (ومعنى مهمل أي لم يذكر اسم أبيه في السند، كما تقدم)، فعلى سبيل المثال يقولون:
كل ما جاء فيه أبو الربيع الزهراني عن حماد مجردا، فهو: حماد بن زيد لا حماد بن سلمة لاختصاص أبي الربيع بالأول دون الثاني.
¥