ويحيى بن معين، رحمه الله، ينص على أن من قال فيه: لا بأس به، فهو ثقة، وإلى هذا أشار العراقي، رحمه الله، في ألفيته بقوله:
وابن معين قال من أقول فيه لا ******* بأس به فثقة ونقلا
رغم ما في هذا اللفظ من إشارة خفية قادحة في الراوي الموثق، والجواب أنه ما أراد بذلك توثيقه مطلقا وإنما أراد الإشارة إلى ضبطه وإن كان هناك من هو أضبط منه ...... الخ من الأمثلة التي يظهر منها تحري النقاد في أحكامهم على الرواة.
ونجد النقاد يهتمون بمسألة الاحتجاج بالحديث تبعا لدرجته، فيحتجون بالصحيح والحسن، بالاتفاق، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وأما الحسن لغيره، وهو مجموع روايات ضعيفة تصلح للاعتبار، فقد اختلفت فيه أقوالهم، فمنهم من يقبله ويحتج به ابتداء، ومنهم من يقبله ولا يحتج به وإنما يستشهد به في فضائل الأعمال فينزله منزلة الضعيف الذي يصلح للاعتبار دون الاستشهاد، كابن القطان الفاسي رحمه الله.
وأما المرسل، (وهو الحديث الذي سقط من آخر إسناده من بعد التابعي، فلا يدرى الساقط أصحابي هو لا يضر إسقاطه، لأنه عدل مطلقا، أم تابعي يلزم معرفة عينه وإثبات عدالته قبل قبول حديثه)، فالجمهور على رده، كما حكى ذلك ابن عبد البر، رحمه الله، في التمهيد، ومسلم، رحمه الله في مقدمة صحيحه، وإلى ذلك يشير العراقي، رحمه الله، في ألفيته بقوله:
ورده جماهر النقاد ******* للجهل بالساقط في الإسناد
وصاحب التمهيد عنهم نقله ******* ومسلم صدر الكتاب أصله
ورغم ذلك، فإن هذا الحكم ليس مطردا، فالأحناف والمالكية، رحمهم الله، يحتجون بالمرسل، كما يظهر من صنيع مالك، رحمه الله، في موطأه، ولكن يرد على ذلك علو منزلة مراسيل مالك، حتى قدمها بعض العلماء على مراسيل من سبقه من التابعين، رغم علو طبقتهم على طبقته، فهو من طبقة تابعي التابعين، ولكن شدة تحريه في الرواية، جعلت العلماء يقدمون مراسيله على مراسيلهم، ولعل هذا هو السبب في احتجاج المالكية بالمرسل، فليس أي مرسل عندهم يصلح للاحتجاج.
وإلى هذا أشار العراقي، رحمه الله، في ألفيته، بقوله:
واحتج مالك كذا النعمان ******* وتابعوهما به ودانوا
والنعمان، هو الإمام الأعظم، أبو حنيفة، النعمان بن ثابت رحمه الله.
وأما الحنابلة، رحمهم الله، فإمامهم أحمد، رحمه الله، يقدم الضعيف، والمرسل من أنواعه، على الرأي إن لم يجد في الباب غيره، واشتهر عنه ذلك، إذ يقول: ضعيف الحديث أحب إلي من آراء الرجال، وتابعه عليه أبو داود، صاحب السنن، رحمه الله، وإلى ذلك أشار العراقي، رحمه الله، في ألفيته، بقوله:
كان أبو داود أقوى ما وجد ******* يرويه والضعيف حيث لا يجد
في الباب غيره فذاك عنده ******* من رأي أقوى قاله ابن منده
وللمسألة تفصيل معروف، في كتب الحنابلة، رحمهم الله، فليست مطردة، وإنما تخضع لعدة اعتبارات، فأحمد، رحمه الله، على سبيل المثال، وهو حامل لواء النقل، يقدم الموقوف على الصحابي، إن صح سنده إليه، على المرفوع الضعيف، ومنه ما أرسله التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن الأول ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم يقينا، خلاف الثاني، فإنه وإن كان ضعيفا إلا أنه قد يكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسألة كما تقدم تخضع للقرائن والمرجحات التي لا يدركها إلا النقاد الجهابذة، فلهم في كل مروية نظر وترجيح، والله أعلم.
وأما الشافعية، رحمهم الله، فإمامهم، وهو من هو، في نصر السنة ورفع لواءها، حتى دعي بـ: "ناصر السنة"، لما أتى بغداد، وكانت الكلمة فيها لأهل الرأي، فإنه يقبل المرسل وفق شروط دقيقة، نص عليها، تدل على تحرزه واحتياطه في قبوله.
¥