ويهتمون بتمييز الأحاديث عن الإسرائيليات، فنجدهم، على سبيل المثال، يتحفظون في قبول ما لا يدرك بالرأي، إن كان راويه ممن اشتهر بالأخذ عن أهل الكتاب، ولم يصرح بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان صحابيا، كعبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، فقد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك، فكان يحدث منهما، (ومما حدث به منهما، حديث الريح التي أهلكت عاد فقد مال ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره، إلى إنكار رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بأن الأقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، وربما كان من هاتين الزاملتين، والله أعلم)، وليس معنى هذا أنه كان يستجيز الكذب في الرواية، حاشاه، رضي الله عنه، وإنما كان يرويها دون أن ينسب شيئا منها للرسول صلى الله عليه وسلم، فهي مما يستأنس به، وروايتها شيء، والاحتجاج بها، شيء آخر، كما أشار إلى ذلك الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
وتراهم يهتمون بتقعيد قواعد الرواية عن المبتدع، ويفردون لها مباحث مطولة، لا يتسع المجال لذكرها، وخلاصتها أن مدار المسألة عندهم على أمرين:
أن لا تكون بدعة الراوي مكفرة، كفرا صراحا لا تأويل فيه، كأن يكون منكرا لمعلوم من الدين بالضرورة، أو تقام عليه الحجة فيما أنكره فيصر ويعاند، ويكون ما أنكره مما يخرج الإنسان بإنكاره من دائرة الإسلام، وإلى هذا المعنى أشار الحافظ ابن حجر، رحمه الله، فليس كل صاحب بدعة، وإن غلظت كافرا بإطلاق، وإن كان لازم قوله كفرا، لأنه قد يكون متأولا تأولا يرفع عنه حكم الكفر وإن لم يرفع عنه إثم بدعته، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وأن يكون صادقا في نفسه، ولو كان رأسا في بدعته، وفي هذا الأمر، خلاف كبير، لا يتسع المجال لذكره، وواقع الحال يؤيد الرواية عن كل من كان صادقا في نفسه، غير خارج عن أهل القبلة، كما في صحيح البخاري، حيث أخرج البخاري لعمران بن حطان الخارجي، وهو رأس في بدعة الخروج، بل إنه مدح عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي، رضي الله عنه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فلم تمنعه بدعته المغلظة من الرواية عنه لما ثبت له صدقه، فالخوارج، كما قد علم، من أصدق الناس حديثا، وهذا من إنصاف أئمة الحديث، في التعامل مع خصوم أهل السنة والجماعة، فلم يهدروا رواياتهم، وإنما انتقوا منها الصحيح، والله أعلم.
وعن جهودهم في مكافحة الوضع، فحدث ولا حرج، فمن معايير تعرف بها الأحاديث المكذوبة، سندا ومتنا، إلى تقسيم بديع لأصناف الوضاعين، وكيفية التعامل مع رواياتهم المكذوبة، فمنهم:
الذي يكذب في الحديث صراحة، وهو الوضاع بلا خلاف.
ومنهم من يتساهل في رواية ما علم أنه مكذوب، فيدخل في الوعيد وإن لم يكذب بلسانه.
ومنهم من يحدث بالخطأ، فإذا ما روجع وبين له خطؤه، أصر وعاند.
ومنهم من يسرق السماع فيدعي سماع ما لم يسمع، وإن كان صحيحا في نفس الأمر من طريق غيره، ليرغب الناس في حديثه، وهو المسمى بـ: "سارق الحديث".
ومنهم من يكذب في غير الحديث، وهو: "المتروك"، وروايته متروكة احتياطا، وإن لم يثبت كذبه في الحديث، لأن كذبه يدل على قلة خشيته فلا يؤمن كذبه على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يضع المتن من نفسه ابتداء، فيأتي بكلام من عنده ويركب له إسنادا.
ومنهم من يأتي لكلام بعض الحكماء والفلاسفة فيركب له إسنادا.
ومنهم من يزيد في حديث صحيح لفظة ليست منه ....... الخ.
ولكل نوع حكم، مفصل في كتب هذا الفن، وهو مما يدل على دقة القوم في إصدار أحكامهم على الرواة، فهي أمانة وأي أمانة، والله أعلم.
إلى تصنيف يختص بالموضوعات دون غيرها، ككتاب: "الموضوعات" لابن الجوزي، رحمه الله، وهو من أشهر وأجمع ما صنف في هذا الشأن، على توسع حصل منه، رحمه الله، حيث أدخل كثيرا من الأحاديث الضعيفة التي لم تصل لحد الوضع، وبعض الأحاديث الحسنة والصحيحة، في كتابه، بل وأدخل أحاديث من صحيح مسلم!!!!!.
وإذا نظرنا في جهود أئمة الحديث في التصنيف، فحدث ولا حرج:
¥