قسمة الحافظ العلائي هذه أدق وأليق بمذاهب القدماء وتصرفاتهم من قسمة من جاء بعد العلائي كابن حجر وغيره؛ ولكن الحكم على أحد المدلسين بأنه يدخل في طبقة معينة مما تقدم يحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق وكذلك لا يكفي الحكم العام للطبقة الواحدة ليكون حكماً دقيقاً على كل واحد من أفرادها؛ فلا بد من مراعاة ما أمكن مراعاته من قرائن الرواية وحال الراوي فيها ونحو ذلك مما يجعل الحكم أدق، أو مما يوجب الخروج في بعض الروايات عن الحكم الأصلي للطبقة إلى حكم آخر خاص بتلك الرواية؛ فقد قال عبد الله بن يوسف الجديع:
(لكن محاكمة من أطلقت فيه العبارة من أولئك الرواة يحتاج إلى تحرير في حق كل راو مذكور به على سبيل الاستقلال بمنزلة تحرير ألفاظ الجرح والتعديل فيه لما تقدم بيانه من كون إطلاق اسم التدليس على الراوي إنما هو من قبيل الجرح المجمل.
وكثير من المتأخرين من العلماء وطلبة هذا العلم صاروا إلى تقليد ابن حجر فيمن سماهم في (طبقات المدلسين) من تأليفه، وسلموا له مجرد إيراده للراوي فيما اصطلحه (الطبقة الثالثة) وما بعدها لرد حديثه بمجرد العنعنة؛ وفي ذلك قصور ظاهر؛ والتقليد في هذا لا يجوز؛ فإنه علم بناؤه على البحث والنظر، فلا يسوغ لمنتصب له أن يقلّد فيه، فيصير إلى الطعن في الحديث الصحيح بمجرد كون ابن حجر أورد هذا الراوي أو ذاك في كتابه، علماً بأن ابن حجر أورد الأسماء في غاية من الاختصار؛ والمتتبع لكلامه نفسه في تقوية الأحاديث يجده لا يلتزم ما التزمه هؤلاء المقلدون). انتهى.
وكذلك ما تقدم من كلام العلائي مما يتعلق بالإمامة، فيه نظر أيضاً، قال عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (2/ 988): (الإمامة ليست معياراً لقبول حديثه لو كان كثير التدليس، فابن جريج إمام لكن لا تقبل عنعنته لكثرة تدليسه سوى ما يرويه عن عطاء والتفسير عن مجاهد).
- 22 - التدليس النادر
إذا وجد لراو معروف بالثقة والإتقان الحديث أو الأحاديث المنكرة يأتي بها معنعنة، ولم يتعين الحمل على أحد ممن دونه أو فوقه في السند، فقد يكون من وجوه ومقتضيات هذه الحال أن يحمل منه ذلك على التدليس، إذا كان محتملاً في حقه، وإن لم ينص على نعته بالتدليس أحد.
- 23 - الشذوذ والإغراب في وصف بعض الرواة بالتدليس
من وصف بعض الرواة بالتدليس وكان ظاهر ذلك الصنيع منه مستغرَباً لأنه تفرد به على شهرة ذلك الراوي أو دلت القرائن على أنه ليس يعرفه معرفة كافية أو غير ذلك مما يريب في اعتماد ذلك الوصف فينبغي التأمل في عبارته وقرائنها، جيداً، فلعله عنى الإرسال الظاهر أو الإرسال الخفي أو تدليس الأسماء أو تكلم برأيه أو وهم في نقله عن غيره، أو نقله عن ناقد واهم فيه.
- 24 - شذوذ الرواية التي فيها تصريح المدلس بالسماع، أحياناً
إذا ثبتت إلى المدلس المكثر من التدليس روايته لحديث معين بالعنعنة، فرواه عنه كذلك غير واحد من ثقات تلامذته، وتفرد بعض الضعفاء من تلامذته بأن جعل مكان العنعنة تصريحاً بالسماع؛ فهذا التصريح إما أن يحكم عليه بالنكارة على أنه مخالفة لرواية الثقات، أو بالضعف على أنه زيادة تفرد بها وهو ضعيف.
وعلى الاحتمالين فلا يصح – كما هو ظاهر – أن يعتمد على هذه الرواية لإثبات سماع هذا المدلس لهذا الحديث من ذاك الشيخ؛ لأنه لا اعتماد على رواية منكرة ولا ضعيفة.
وليس هذا من باب الاستشهاد حتى يتسامح في إسناده، بل هو من باب الاحتجاج؛ لأن لفظ السماع لم يجيء إلا في تلك الرواية التي جاء بها ذاك الضعيف، فمن أثبت السماع بتلك الرواية، فقد احتج بها وحدها.
ومعلوم أن الإسناد الضعيف لا تقوم به الحجة لإثبات الرواية، فكيف بإثبات السماع، الذي هو من أخص تفاصيلها ويحتاج إلى حفظ وإتقان، وقد يهم فيه الثقة فضلاً عن الضعيف؟!
روى ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: (سألت أبا مسهر: هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمع من أنس بن مالك؛ فقلت له: سمع من أبي هند الداري؟ فقال: من رواه؟ قلت: حيوة بن شريح، عن أبي صخر، عن مكحول، أنه سمع أبا هند الداري يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكأنه لم يلتفت إلى ذلك.
¥