ينبغي عند نقد روايات الموصوفين بالتدليس التفريق في الحكم بين المكثر من التدليس والمقل منه، والتفريق بين عنعنة المدلس عمن هو كثير الملازمة له وعنعنته عن غيره؛ والتفريق بين المكثر عن شيخه والمقل عنه؛ وينبغي ملاحظة القرائن والمظان، وحال الرواية من جهة الغرابة والنكارة ونحوهما.
فإذا كان الراوي الموصوف بالتدليس مكثراً جداً من الرواية عن شيخ معين وكان طويل الملازمة له فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال، لأنه يندر أن يفوته شيء من أحاديثه، فالظاهر أنه سمع جميعها، أو أنه لم يفته منها إلا النادر الذي لا يمنع من قبول عنعناته عن ذلك الشيخ، لأن النادر لا حكم له ولا تبنى عليه القواعد؛ فلا تضر مروياتِه عنه عنعنتُه فيها إلا بقرينة تقتضي إعلال الرواية بتلك العنعنة؛ قال الذهبي في (الميزان) 2/ 224 عن الأعمش: (وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال (عن) تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال).
ونحو ما قيل في الملازِم يقال في المكثر من السماع عن شيخه ولو لم يلازمه إذا كان ذلك الإكثار مقارباً لاستيعاب أحاديث ذلك الشيخ؛ ومعلوم أنه ليس المراد بالإكثار هنا كثرة التحديث عن الشيخ؛ وإنما المراد كثرة التحمل منه بلا واسطة.
وكذلك المقل من التدليس الأصل في عنعنته القبول؛ قال البخاري: (ولا أعرف للثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور – وذكر مشايخ كثيرة – لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه). اهـ من (العلل الكبير) للترمذي (2/ 966).
ولكن مع ذلك يُحتاط في عنعنة هؤلاء الثلاثة (أعني الملازِم، والمكثر عن شيخه، والمقل من التدليس) أكثر مما يحتاط في عنعنة من لم يوصف بتدليس أصلاً.
وأما المكثر من التدليس والمقل عن شيخه وغير الملازم له فالأصل في عنعنتهم الرد.
فإذا نص الحفاظ في حق بعض المدلسين أنه لم يسمع من شيخ معين له إلا القليل كأن يكون سمع منه حديثاً أو حديثين أو نحو ذلك ثم روى عنه أحاديث كثيرة فحينئذٍ يكون الأصل في روايته الانقطاع إلا ما صرح فيه بالسماع أو نص الحفاظ على أنه سمع هذا الخبر بعينه عمن رواه عنه ونحو ذلك.
ولذلك كان من النافع المهم معرفة قدْر ما روى الراوي عن شيخه متصلاً إن أمكن ذلك؛ فإنه إذا روى عنه غير ذلك علمنا أنه إنما تلقاه عنه بواسطة فأسقطها. لكن هذا الطريق يوجب تحرياً شديداً قبل الجزم به.
ومثال على هذا رواية الحسن عن سمرة، ثبت في صحيح البخاري سماعه من سمرة لحديث العقيقة وقد روى نحواً من (164) حديثاً بالمكرر كما في (معجم الطبراني الكبير) (7/ 6800 –6964).
وبعض هذه الأحاديث فيها نكارة، ولا شك أن العلة في ذلك ليست من الحسن لأنه إمام، فعلى هذا تكون العلة من الواسطة بينهما، ودل ذلك على أن القول الراجح في رواية الحسن عن سمرة أن الأصل فيها الانقطاع، والقول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة قول قوي، وقد أخرج عبد الله بن أحمد عن أبيه ثنا هشيم أخبرنا ابن عون قال: (دخلنا على الحسن فأخرج إلينا كتاباً من [لعلها عن] سمرة ... ). ا. هـ من (العلل) (2/ 260)؛ فهذا يؤيد أنها صحيفة ولم تكن سماعاً، والله أعلم.
والحاصل أن الراوي الموصوف بالتدليس إذا كان مكثراً جداً من الرواية عن شيخ معين وكان طويل الملازمة له فالأصل في روايته أنها تحمل على الاتصال؛ وأنه إذا كان مكثراً من التدليس أو مقلاً من السماع عن شيخه أو غير ملازم له فالأصل في عنعنتهم الرد.
فهذان أصلان مقرران والناقد المتمكن يخرج عنهما بحسب اجتهاده وما يلاحظه من القرائن.
وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقربها، وعليه دلت عبارات وتصرفات كبار النقاد وعلماء العلل وعليه جرى عمل أكثرهم، فتأمل مثلاً ما جاء في الصحيحين من عنعنة الموصوفين بالتدليس، وكذلك ما جاء من ذلك في صحيح ابن خزيمة وما صححه من ذلك الترمذي في سننه؛ وقال يعقوب بن شيبة السدوسي كما في (الكفاية) (ص362): سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا؟ قال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا حتى يقول: حدثنا. وانظر (شرح علل الترمذي) لابن رجب (1/ 353 - 354).
¥