وقد قال أبو داود – كما في شرح علل الترمذي (583) -: (سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث، يحتج به فيما لم يقل فيه: حدثني أو سمعت؟ قال: لا أدري)؛ فالظاهر من هذا الجواب أن الإمام أحمد لا يحكم على عنعنة المدلس بحكم كلي بل ينظر إلى الملابسات والقرائن وأن الحكم على عنعنة المدلسين لا يصح أن يكون واحداً وإنما هو أحكام متعددة؛ بل الحكم على عنعنة الراوي الواحد قد يختلف من حال إلى حال.
هذا وقد بقي مذهبان آخران في حكم رواية المدلس أعني الثقة الذي يدلس عن الثقة وغيره، [وأما رواية المدلس الضعيف فالأصل فيها الرد صرح أو لم يصرح. وأما رواية المدلس الذي لا يدلس إلا عن ثقة فالأصل فيها القبول صرح أو لم يصرح]؛ وهذان المذهبان هما:
الأول: مذهب الشافعي ومن تبعه كابن حبان والخطيب؛ وعلى ظاهره أكثر المتأخرين والمعاصرين؛ قال الإمام الشافعي في (الرسالة) (ص379–380): (من عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته … فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت). ا. هـ.
فهذا الأقرب أنه عند غرابته أو معارضته لحديث آخر مثله في القوة أو في الحالات التي ينبغي أن يكون فيها الحديث المحتج به في أعلى مراتب القوة؛ ويظهر أن الشافعي نفسه لم يلتزم بطرد ظاهر هذا الأصل في الأحوال كلها، فقد روى لابن جريج على سبيل الاحتجاج أحاديث معنعنة في مواضع من كتبه، ولم يذكر الشافعي أن ابن جريج سمع هذا الخبر ممن حدث عنه، وكذلك روى لأبي الزبير، (انظر الرسالة ص498 و890 و903 و498 و889)، والأمثلة على هذا كثيرة لمن أراد أن يتتبعها.
ووافق الشافعي في مذهبه هذا ابن حبان في مقدمة (صحيحه) (1/ 161) وفي (ثقاته) (1/ 12) وفي (المجروحين) (1/ 92)؛ وقال عقب تقريره في (المجروحين): (وهذا أصل أبي عبد الله الشافعي رحمه الله ومن تبعه من شيوخنا).
قال الخطيب في (الكفاية) (ص51): (وهذا هو الصحيح عندنا).
ويجاب عن قول ابن حبان كما أجيب عن قول الشافعي.
والظاهر أن هذا هو مذهب الإمامين الكبيرين شعبة بن الحجاج وتلميذه يحيى بن سعيد القطان؛ ولكن تشديد شعبة على التدليس وأهله معلوم، والله أعلم.
الثاني: مذهب ابن حزم؛ وهو قبول روايته مطلقاً ما لم يُتيقن فيها أنه أسقط بعض رواتها. وهو أضعف المذاهب وأبعدها عن التحقيق.
قال أبو الحسن ابن القطان: (إذا صرح المدلس قبل بلا خلاف؛ وإذا لم يصرح فقد قبله قوم ما لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه، ورده آخرون ما لم يتبين أنه سمعه).
"
ـ[المعتزة بدينها]ــــــــ[14 - 03 - 06, 04:37 م]ـ
اخي محمد خلف لماذا اضفت هذا الموضوع هل مذكور في الملف الذي نزلته ام هل تقترح علي ان اضيفه عندي؟؟
بارك الله فيك
على فكره هل هذا من شرحك اخي ام اقتباس من كتاب ان كان من كتاب من مؤلفه وبوركت
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[14 - 03 - 06, 05:00 م]ـ
"
لا شك أن هذا القسم غير القسم الذي في الملف المتقدم ....
"
ـ[محمد خلف سلامة]ــــــــ[14 - 03 - 06, 05:30 م]ـ
- 27 - الاحتراز من أوهام المدلس الثقة في التصريح بالسماع
ليس كل ما يرويه المدلِّس الثقة مصرحاً فيه بالسماع يقطع فيه بأنه قد سمعه ممن فوقه، ولكن هذا – أي الحكم بالسماع في مثل هذه الحالة – هو الأصل، والأصل قد يًخرَج عنه أحياناً، وذلك عندما توجد القرينة المقتضية للخروج؛ فهنا قد يرى الناقد من علماء العلل وجهابذة الحديث أنه قد وقع وهم من ذلك المدلس أو - ممن دونه من الثقات - في تصريح المدلس بالسماع، فيحكمون بانقطاعه، وأن صواب الرواية أن تكون بالعنعنة وما كان في معناها.
ولأئمة الحديث في إدراك ذلك طرق متعددة، هي عين طرقهم في إدراك علة الحديث الذي ظاهره الصحة، بل هذا الأمر هو بعض موضوعات علم العلل.
فمن تلك الطرق مخالفة الأوثق، أو الثقات الأكثر عدداً، أو مخالفة اتفاق الأئمة أو ما ثبت بالتاريخ أو غير ذلك ......
والحاصل أنه ليس كل ما يرويه المدلس مصرِّحاً فيه بالسماع يكون مقبولاً منه؛ بل الأصل في ذلك أنه لا يقبل منه تصريحه بالسماع إلا إذا ثبت السند إليه؛ ثم إن الأمر بالنسبة لعلماء العلل لا يقف عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى عدم الثقة بذلك التصريح، وإن ورد بإسناد صحيح؛ لا اتهاماً بل توهيماً، سواء تهيأ لهم تعيين الواهم جزماً أو ظناً غالباً، أو لم يتهيأ لهم ذلك.
¥