ثم إذا أتى – بعد ذلك، أو في أثنائه - مِن الثقات أو المتماسكين مَن يسمعه من أحد هؤلاء المدلِّسين، ثم يؤديه فيغلط فيجعل بدل العنعنة تصريحاً، فإذا الأمر قد صار ظلمات بعضها فوق بعض ولكنها تشبه النور، وكذب مصمت ولكنه مغلَّف بالصدق الموهوم؛ بناء كاد أن يكون محكماً، أسَّسه الكذابون عن سوء قصد وخبث طوية، وأعانهم - أيما إعانة - الضعفاء والمغفَّلون، عن غفلة وحسن نية! بحيث ضمن أولئك الدجالون أن حديثهم المفترى سيقال فيه: إنه بمجموع طرقه حسن في أقل أحواله!! وما أكثر ما قيل في مثل هذا القبيل؛ فيا قرة أعين الكذابين لولا من جعلهم الله لهم بالمرصاد، من أئمة هذا الشأن، الذين لا يثبت أمام مثل هذه المعركة الحديثية سواهم فإنهم فرسان الحديث، ولا يشفي من مثل هذا الداء العضال غيرهم، فإنهم أطباء الرواية؛ ولكن كيف إذا أتى غيرهم من أهل الظواهر فرد عليهم إسقاطهم لتلك الرواية الساقطة أصلاً، وقال: لا يجوز توهيم الثقة بغير دليل؛ ماذا تُرى يقال لمثله؟ لعل السكوت والاسترجاع هو الأولى؛ فإن كان لا بد من مقال فليكن نحو هذا المثل المضروب قديماً: (ويل لعالم أمر من جاهله)، الله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- 32 -
كل من أسقط من السند راوياً أو أكثر فلا بد أن يكون واحداً مما يلي:
1 - كاذباً.
2 - مدلساً.
3 - ناسياً - سواء كان ثقة أو ضعيف الحفظ.
4 - متعمّداً معْتمداً على القرينة الدالة على الإسقاط كالتاريخ ونحوه؛ وهذا هو الارسال بنوعيه الخفي الظاهر.
ومعرفة ضوابط التفريق بين هذه الأصناف نافعة كثيراً.
- 33 -
الراوي إذا ثبت أنه مدلس وثبتت عدالته لم تضره النكارة في بعض ما يرويه من الأحاديث – بالعنعنة - عن الثقات من شيوخه، لأن الحمل يكون حينئذ على الذين دلسهم أي أسقطهم تدليساً، وهذا بخلاف غير المدلس فإنه إذا روى عن شيوخه أحاديث منكرة بأسانيد مستقيمة وكثر منه ذلك، فإنها تضره، وتكون تبعتها عليه.
- 34 -
إذا كان المدلس يدلِّس عن شيوخ بعينهم، دون سواهم، أو يدلِّس في باب معين دون سواه، أو لا يدلس إلا عن ثقة، فهذا القسم من المدلسين لا يصلح تعميم حكم عنعنة الواحد منهم على جميع مروياته المعنعنة.
ولكن الأمر هنا يبنى على التفصيل، فمثلاً من عُرف بالتدليس لكنه لا يدلس عن بعض شيوخه خاصة، فإنه تستثنى عنعنته عن هؤلاء الشيوخ، مثل عنعنة ابن جريج عن عطاء.
- 35 -
من ظن أن وصف الضعفاء من الرواة المدلسين بالتدليس لا يُحتاج إليه في نقد الأحاديث، بحجة أنهم ضعفاء في أنفسهم، وضعفهم يكفي في رد حديثهم، فقد وهم؛ وذلك لأن عنعنتهم تزيد رواياتهم وهناً؛ ثم إن من كان منهم صالحاً للإعتبار اذا صرح بالسماع، فلن يكون صالحاً له إذا عنعن، ولا سيما إذا كان متابعه في هذه الرواية المعنعنة أحد شيوخه، لاحتمال أن مرجع رواية ذلك المدلس إلى ذلك الشيخ.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن ذلك الراوي الذي هو ضعيف عند جماعة من النقاد ربما يكون قوياً محتجاً به عند جماعة أخرى، وهؤلاء الذين يحتجون به لا غنى بهم أصلاً عن معرفة كونه مدلساً.
- 36 -
قد يظنُّ ظانٌّ أننا لن نحتاج إلى التمييز بين من لقيهم المدلس ممن روى عنهم، وبين من لم يلقهم منهم، لأننا نرد عنعنته مطلقاً، أي في الحالتين؛ ولكن هذا لا يصح لأمرين:
أولهما: أنه إذا خيف من وقوع الوهم في صيغ أدائه من قِبل بعض من دونه في السند في بعض الروايات عنه بأن يقلب العنعنة إلى تصريح فإن ذلك الوهم يكتشف في حالة العلم بأنه لم يسمع من ذلك الراوي الذي فوقه شيئاً، ومثل هذا نادر الوقوع لا يستحق كثيراً من الاعتناء؛ ولكن الحاجة إلى ذلك التمييز تبقى واقعة من أجل شيء مهم، هو أن ذكر الانقطاع الثابت المتحقق في الإسناد أولى وأقوى في النقد وتعليل الرواية من مجرد الاقتصار على التنبيه على عنعنة الراوي وتدليسه، لأن عنعنة المدلس وإن كان لها حكم الانقطاع، فإنه حكم محتمل مظنون غير مقطوع به بخلاف الانقطاع الذي هو روايته عمن لم يسمع منه شيئاً أو عمن لم يدركه أصلاً، ثم إنه قد وقع مِن تساهل فريق من العلماء في روايات المدلسين بالعنعنة ما لم يقع مثله ولا مثل شطره في روايات الرواة عن غير شيوخهم بلا واسطة يذكرونها. وهذا يقتضي معرفة صفة من فوق المدلس فإن كان من شيوخه أُعلت الرواية بعنعنة ذلك المدلس، وإلا أُعلت بالانقطاع
¥