عدَّ الحاكم هذا الحديث شاذاً، فهذا متن لا أصل له، صرح الحفاظ بوضعه ()، ومع ذلك يشير الحاكم إلى أن رجال السند موثقون، وذهب إلى أن ميناء صحابي فلا مطعن فيه، فالحديث ظاهر سنده القوة، لكنه غير محفوظ، ولا معروف لدى الحفاظ، فهو يشعر ويحكم بشذوذه دون أن تظهر له علة فيه بين خلله.
وقد خالفه الحاكم في ما ذهب إليه المحدثون، فميناء ليس صحابياً بل هو مطعون فيه من طبقة التابعين ولم تثبت له صحبة.
قال الذهبي عن هذا الحديث (): «موضوع، وميناء تابعي ساقط».
وقال ابن حجر في ميناء (): «متروك، ورمي بالرفض، وكذبه أبو حاتم، ووَهِلَ الحاكمُ فجعل له صحبة».
وهذا الحديث رواه الحفاظ من حديث الحسن بن علي الأزدي عن عبد الرزاق، واتهموه به ()، ولم أجد من رواه عن إسحاق الدَّبَري عن عبد الرزاق إلا الحاكم، والراوي عن إسحاق هو محمد بن حيويه، شيخ الحاكم، ومتأخر الطبقة، غير ثقة ()، فلا يعتمد على روايته، فكأن الحديث يرجع إلى رواية الحسن بن علي الأزدي عن عبد الرزاق، لا من رواية إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري عنه.
فلعل هذه هي علة إسناده، التي شعر بها الحاكم ولم تظهر له.
خلاصة الشاذ عند الحاكم:
من خلال ما سبق من كلام الحاكم وعمله يمكن أن نستخلص ما يلي:
أولاً: أن الشاذ عند الحاكم نوع أدق من المعلول، فالمعلول عرفنا موضع الخلل الذي فيه، وتبينا علته، أما الشاذ فلم نعرف علته، ولم نصل إلى مكمن الخلل فيه، لكنَّ نسق السند، وسياق المتن، يشعران بأن فيه علة خفية، وأن الحديث فيه وهم أو خطأ، وقد توجد أمارات أخرى ترجح خطأه وإن لم تُكشَفْ لنا علتُه، فهذا الذي يطلق الحاكم وصف الشذوذ.
قال الحافظ ابن حجر (): «وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على هذا، وهذا القيد لا بد منه، وإنما يغاير المعلل من هذه الجهة، وهذا على هذا أدق من المعلل بكثير، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب، ورسوخ القدم في الصناعة».
وهذا القيد الذي ذكره ابن حجر لم يصرح به الحاكم، وإنما فهمه ابن حجر من سياق كلامه وأمثلته التي عرضها ().
قال الدكتور نور الدين عتر (): «وثمة تحقيق جديد في مراد الحاكم بالشاذ؛ هو أنه نوع دقيق من المعلل، قد أعل بأمر دقيق من التفرد، هو أعمق من ظاهر معنى التفرد، فهو نوع من المعلل ينقدح في نفس الناقد تعليله، وقد تقصر عبارته عن الإفصاح به، لكون علته ليست من نوع العلل المعروفة، كوصل حديث مرسل، أو وهم راوٍ، أو دخول حديث في حديث.
وهذا ما تفيده عبارة الحاكم، وتدل عليه الأمثلة التي ذكرها للشاذ، وهو أن الشاذ نوع من الحديث الفرد، يقع رجاله في السند على نسق فريد لم يعرف في سياق الأحاديث غير سياق الحديث المحكوم عليه بالشذوذ، وكذلك المتن، وذلك يشعر بوقوع خلل في الحديث وإن كنا لا نستطيع بيان هذا الخلل وتعيينه ما هو؟».
ثانياً: أن الشاذ عند الحاكم ضعيف مردود، إذ هو نوع أخص من المعلول، وأسوء حالاً منه، فإذا كان الحديث المعلول ضعيفاً مردوداً، كان الشاذ ضعيفاً مردوداً من بابٍ أولى، وهذا ظاهر من تتبع الأمثلة.
ولا يشكل على هذا أن الحاكم وصف بعض أحاديث الصحيحين بأنها شاذة، فهذا اجتهاد منه في تضعيفها والحكم عليه بالشذوذ، لا أنه يرى أنها شاذة صحيحة.
وهذا خلاف ما قاله الحافظ ابن حجر بأنه يلزم من كلام الحاكم أن يدخل في الصحيح الشاذ وغير الشاذ، حيث قال ():
«والحاصل أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق، فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح، فكلامه أعم. وأخص منه كلام الحاكم، لأنه يقول: إنه تفرد الثقة، فيخرج تفرد غير الثقة، فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ».
بل هذا يخالف كلام ابن حجر نفسه الذي سبق نقله، فقد صرح بأن الحاكم إنما يقصد نوعاً خفياً من المعلل، انقدح في نفس الناقد رده، لكن لم تسعفه عبارته، أو لم تتبين علته، والمعلل ضعيف مردود، فكيف يكون الشاذ نوعاً أدق من المعلل، ثم يحكم عليه بالصحة؟؟؟.
وقد صرح البقاعي تلميذ ابن حجر عند نقله لكلام شيخه بأن الشاذ يشارك المعلول في الرد وعدم القبول؛ فقال ():
¥