لكن في الحقيقة هناك بعض الأبواب أعيت العلماء أن يجدوا لها جوابًا، ما عرفوا علاقة الباب بالحديث أبدًا، فوجهوا هذا الأمر بتوجيه معين، فإما أن يكون هذا عجز من العالم ألا يجد وجه الترابط بين الباب والحديث؛ هذا وجه وارد، وهناك سبب آخر بينه أحد رواة " صحيح البخاري "، وهو أنه ذكر أنهم لما نسخوا " صحيح البخاري " من نسخة تلميذ البخاري الْفَرَبْرِي وجدوا أبوابًا وليس تحتها أحاديث، يعني أن البخاري كان يضيف ويحدث في كتابه على مدى عمره، ربما وضع ترجمة باب أو عنوان باب وترك تحته بياض على أساس أنه يريد أن يبحث على حديث على شرطه ويضعه تحت هذا الباب، فمات ولم يُتم هذا العمل، وهناك أحاديث وضعها ولم يضع لها أبوابًا على أساس أنه سيعود إليها مرة أخرى ويضع لها عنوانًا، فتُوفي ولم يضع بعض هذه العناوين، وهي قليلة في الكتاب لكن هذا وقع، فجاء بعض النُّسَّاخ فصار يُدخل بعض هذه الأحاديث التي ليس لها أبواب ضمن الأبواب التي ليس تحتها أحاديث، وصارت بهذه الطريقة بعض هذه الأحاديث لا علاقة لها بالتبويب.
فيقول الحافظ ابن حجر: لكن هذا لا نلجأ إليه - هذا التوجيه أول شيء أنه قليل في الصحيح - ولا نلجأ إليه إلا إذا تعذر علينا أن نجد وجه الترابط بين الباب والحديث، عندها نقول: لعل هذه الأحاديث من ضمن تلك الأحاديث التي وُضعت في غير محلها من النُّسَّاخ الذين نسخوا " صحيح البخاري " ورَوَوْهُ عن تلميذه الفربري.
من منهج البخاري في الصحيح أنه قد يُترجم بتراجم محتَمَلة، بمعنى أنه لا يجزم فيها بالحكم، كالتراجم التي تبتدئ بالاستفهام: باب هل يفعل المسلم كذا؟ هل يفعل المصلي كذا؟
لا يجزم فيها بحكم، ما هو سبب عدم الجزم؟
يذكر العلماء أن أسباب عدم الجزم للإمام البخاري:
الاحتمال الأول: أن يكون وجه الدلالة محتمل، وأن لا يكون وجه الدلالة صريح بالحكم فورعًا منه لا يجزم بالحكم؛ مجرد يشير، من منطلق هذا الدليل مُحْتَمَل أن يُستنبط منه هذا الحكم، ويترك الحكم أو الجزم للدارس، الباحث، العالم الذي سيستفيد من هذا التبويب ويستفيد من هذا الحديث لاستنباط الحكم.
والاحتمال الثاني: أن يكون هذا الحديث قد اختُلف في رفعه، ووقفه، كيف اختُلف في رفعه ووقفه؟
ولكننا نرى بعض صغار السنن فلابد من توضيح بعض الأمور الجلية.
المرفوع: هو الحديث الذي نُسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
الموقوف: هو الحديث الذي نُسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم.
فإذا اختلف في الحديث في رفعه ووقفه؛ هل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أومن كلام الصحابي، عندها أيضًا الإمام البخاري يقوم بوضع ترجمة محتَمِلة غير قاطعة بالحكم لورود الخلاف في الحديث، وإن كان البخاري قد يرجح الرفع، لكن لوجود الخلاف لا يجزم أيضًا من باب الإشارة إلى وجود خلاف ومن باب الورع أيضًا في عدم الجزم بحكم قد يكون فيه خلاف.
مما يتعلق أيضًا بتراجم البخاري أَنَّ البخاري قد يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث، يعني قد يأتي بلفظ للحديث لكن الترجمة لا تنطبق على اللفظ الذي ذكره، لكنها تنطبق على لفظ آخر للحديث، فهو عندما يترجم هذه الترجمة يُومِئ بأن للحديث لفظ آخر يجب أن تنتبه إليه، وهذه الطريقة يتبعها الإمام البخاري.
لِمَ لَمْ يَذكر اللفظ الآخر؟
إما من باب شَحْذ الذهن، حتى يتعود القارئ الذكاء والفهم والاستنباط، أو لأن هذا اللفظ ليس على شرطه ولذلك ذكره وأومئ إليه دون أن يورد الحديث الذي يوافق هذا اللفظ؛ وهذه أيضًا من مَلاحِظ البخاري الدقيقة في تراجمه.
يتبع
ـ[حامد الحجازي]ــــــــ[16 - 04 - 06, 01:06 م]ـ
وكثيرًا أيضًا ما يترجم الإمام البخاري في ألفاظ الآثار للصحابة والتابعين، يكون في قول عمر، قول أبي بكر، قول زيد بن ثابت، قول علي بن طالب؛ يحذف هؤلاء الصحابة ويضع كلامه كأنه عنوان في بداية الباب ثم يُورد تحت ذلك الباب الحديث الذي يدل على مقتضى تلك الترجمة.
المقصود أن تراجم البخاري بث فيها علمًا كثيرًا وفقهًا جزيلًا، ودل فيها أنه إمام من أئمة الفقه المجتهدين اجتهادًا مطلقًا، وأنه - بحَقٍّ - ممن جَمَعَ بين علميّ الفقه والحديث على أتم وجه؛ عليه رحمة الله.
¥