لأن هناك من العلماء من سبق البخاري وجَمَع الأحاديث المقبولة، لكنه أدخل بينها أحاديث غير متصلة، ونقصد بالذات الإمام: مالك بن أنس في كتابه " الموطأ " الذي كان يقول فيه الإمام الشافعي: " لا أعرف كتابًا على أديم الأرض أصح من كتاب مالك بن أنس "، أو عبارة نحوها. طبعًا الشافعي قال هذا الكلام قبل أن يؤلف البخاري كتابه؛ لأن الشافعي توفي سنة مائتين وأربع من الهجرة، يعني كان عمر البخاري عشر سنوات، يعني ما ابتدئ أصلًا بتأليفه " الصحيح ".
لكن بعض العلماء انتقضوا كابن الصلاح لما ذكر أن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد، قالوا: قد سبقه مالك.
فأجاب بعض أهل العلم قالوا: لكن " مالك " فيه مراسيل وفيه بلاغات.
فأجاب - يعني الذين يدافعون: على أن كتاب مالك هو أول كتاب في الصحيح المجرد - قالوا: والبخاري فيه معلقات، وهي غير متصلة. فما هو الجواب؟
الجواب هو كلمة: " المسند "، لما قال " المسند " بَيَّنَ أنه إنما يشترط الصحة في الأحاديث المتصلة، أما ما في سواها فإنه أوردها عَرَضًا، يعني ناحية يتفرع بها، فوائد يتفرع بها، ليست أصلًا في شرط الكتاب، شرط الكتاب الأصلي هي الأحاديث المسندة المتصلة، ولذلك صح أن نقول بأن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد، أما مالك فأخرج تلك المراسيل يَحْتج بها.بخلاف الإمام البخاري ويراها مقبولة، وكذلك البلاغات يحتج بها ويبني عليها مذهبه، أما البخاري فلا يحتج إلا بالمسند ولا يصحح إلا المسند، ولذلك صح أن نعتبر أن كتاب البخاري أول كتاب في الصحيح المجرد.
كذلك كلمة " المسند " من وجه آخر كما ذكرنا المرفوع تُخْرِج الآثار - آثار الصحابة والتابعين - لما قلنا أن المسند شرطه أن يكون مرفوعًا متصلًا، إذًا الآثار التي يوردها الإمام البخاري لا يوردها أصالةً وإنما يوردها عرضًا لفائدة جانبية، ولذلك أكثر هذه الآثار التي يوردها غير متصلة، معلقة، فيقول: قال عمر، قال أبو بكر، قال فلان، قال فلان. إلا آثار قليلة جدًّا أوردها أصالةً.
وهذه الآثار التي أوردها أصالة تنقسم إلى قسمين:
قسم منها مما له حكم الرفع؛ هو موقوف لكن له حكم الرفع.
من أوضح هذه الآثار أو من أمثلتها الصريحة والواضحة حديث عائشة في " صحيح البخاري " تقول رضي الله عنها: ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ حين فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَةٌ?? هل يمكن أن تقول عائشة هذا الكلام بالاجتهاد؟! هل يمكن أن يكون هذا الكلام بالاستنباط؟!
ولا هذا لا بد أن يكون تلقته عن النبي عليه الصلاة والسلام، تقول: ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ ??. وهناك أمثلة كثيرة أخرى في صحيح البخاري تدل على أنه إذا كان الكلام لا يمكن أن يكون باجتهاد واستنباط ولا بد أن يكون مأخوذًا عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس مما يؤخذ من الإسرائيليات، فعند ذلك يكون له حكم الرفع كما هو معروف في هذه المسألة: أن الأثر الموقوف يكون له حكم الرفع إذا لم يكن للاجتهاد فيه مَدْخَل، وإذا لم يكن مما يُحتمل أن يؤخذ عن الإسرائيليات أو يغلب على الظن ليس مأخوذًا عن الإسرائيليات، وهذا يتحقق في هذا الأثر وفي غيره من الآثار التي أخرجها البخاري.
إذًا هي وإن كانت موقوفة لكن لها حكم المرفوع، ولذلك أدخلها ضمن الكتاب الذي أسماه بـ" المسند " والذي يشبه أن يكون مرفوعًا.
هناك آثار قليلة في الحقيقة لم يظهر للعلماء أو للباحثين وجه الحكم بالرفع فيها، وأوردها الإمام البخاري مسنده متصلة، ولا أَجِدُ في الحقيقة حتى الآن جوابًا عليها؛ كيف أوردها أصالة وهو اشترط أن يكون الكتاب مسندًا.
يعني مِن بين ذلك: أنه مثلًا أنه بَوَّبَ على تقبيل الميت وأورد فيه حديث أبي بكر أنه ?? دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مُسَجَّى فَكَشَفَ عَنْ ثَوْبِهِ وَقَبَّلَهُ ??. هذا أثر عن أبي بكر وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يقال إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام؛ أثر لأبي بكر رضي الله عنه، فما هو وجه إسناده وروايته له؟!
¥