هذا الكلام ذكره الحاكم؛ صحيح، لكنهم اعترضوا عليه بأن البخاري ومسلم قد أخرجا لجماعة من الرواة لم يرو عنهم إلا رجل واحد، وضربوا أمثلة لذلك من الصحابة ومن غير الصحابة، لكن في حقيقة النظر في كلام الإمام الحاكم في " المستدرك " وفي كتابه " المدخل إلى كتاب الإكليل " وجدنا أنه يقصد من هذا الكلام أن يُبَيّن أعلى شرط الصحيح؛ لأَنَّه صرح في مواطن أن البخاري ومسلم أخرجا لأقوام تفرَّد بالرواية عنهم شخص واحد فهو كان على علم بذلك.
إذًا ما هو مَقْصودِهِ لما ذكر أن شرط البخاري هو أن لا يُخرج إلا لمن روى عنه أو من عُرف برواية اثنين عنه؟
قصده من ذلك: أَنَّ هذا هو أعلى شرط " الصحيح " كما ذكرنا سابقًا في التام الضبط، يعني البخاري يحرص ألا يُخرج إلا لمن عرف برواية اثنين عنه، فإن وَجَد أصلًا من الأصول واجتمعت فيه شروط القبول من رواية مَن لم يُعرف إلا برواية رجل عنه أخرجه في تلك الحال، لكنه لا يلجأ لإخراج أمثال هؤلاء إلا إذا فقد القسم الأول من الرواة، وهو من عُرف برواية رجلين عنه فأكثر؛ هذا هو توجيه كلام الحاكم وهو من أعرف الناس بكتاب الصحيح، وقد نص كما ذكرت وهذا بسبب التأويل، يعني قرين التأويل من كلام الحاكم أنه كان على علم كما نص على ذلك بأن البخاري ومسلم قد أَخرجا لجماعة من الرواة روى عنهم رجل واحد.
نرجع إلى شرط البخاري في الضبط، فنقول شرط الضبط لا شك أنه من شروط الحديث الصحيح ولا بد من وجود هذا الشرط حتى يُقبل الحديث، والإمام البخاري كذلك اشتراط دقيق وشديد جدًّا، وقد بَيَّنَ ذلك بالمثال أحدُ العلماء وهو الإمام الحازمي؛ حيث إن الرواة المقبولين لهم طبقات، وضرب لذلك مثالًا قال: لو أتينا بأحد العلماء المشهورين كالإمام الزهري مثلًا.
نجد أن الإمام الزهري مكث يحدث سنوات طويلة جدًّا وتتلمذ على يديه تلامذة كُثُر، بعض هؤلاء التلامذة مع تمام ضبطهم لازم الزهري ملازمة طويلة؛ في السفر والحضر، في كل أحواله، فهو صاحب حفظ قوي جدًّا، ضبط تام، ووافق مع ذلك أنه لازم الزهري ملازمةً كبيرة جدًّا، هؤلاء أعلى طبقة من الرواة عن الزهري.
الطبقة الثانية: هم طبقة مَنْ كان ثقة ضابطًا ضبطًا تامًّا، لكنه لم يلازم الإمام الزهري، وإنما جَلَسَ معه مجلسين، ثلاثة، أربعة، عشرة، مجالس معدودة لم يلازم الزهري ولم يكن خبيرًا بأحاديثه أو بمروياته.
يقول: لأن الإمام البخاري شرطه الأعلى، يعني: يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى من الرواة، وهو أن يكون الراوي ضابطًا ضبطًا تامًّا وملازمًا للشيخ الذي روى عنه، فإن لم يجد من رواية رجل من هؤلاء حديثًا أصلًا في باب من الأبواب، عندها ينتقل للطبقة الثانية.
وسيأتي بقية الطبقات والكلام عنها عندما نتكلم عن مناهج بقية الكتب بإذن الله تعالى، لكن المقصود أن البخاري يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى؛ هذه قمة حقيقة في النقل وفي التحري وفي التثبت، فإن لم يجد إلا المرحلة الثانية - وهي أيضًا للثقة التام الضبط - أخرج لها في كتابه " الصحيح "، لكنها تعتبر شرط فرعي - إن صح التعبير - في كتاب " الصحيح ".
مازلنا نتكلم عن العدالة والضبط، وقد يَعترض بعض الناس على ذلك لوجود رواة تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري "، وقد عدَّهم الحافظ ابن حجر، قال: إنهم نحو الثمانين راوٍ، وهناك كتاب آخر واسع في ذِكْر من تُكُلِّم فيه من رجال الصحيحين، وهو كتاب أبي زرعة العراقي واسمه: " البَيَان والتوضيح لمَنْ مُسَّ بِضَرْبٍ من التجريح أُخْرِج له في الصحيح " لأبي زُرعة أحمد بن عبد الرحيم بن حسين العراقي، ذكر في هذا الكتاب سبعة وخمسين وثلاثمائة راوٍ تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري "، لكن بالطبع أكثر هؤلاء الرواة لم يُتَكَلَّم فيهم بشيء يُنزل مرتبتهم أصلًا، يعني الذين فيهم كلام فيه شيء من الوَجَاهَة، فيه شيء من القوة لعلهم لا يبلغون حد الثمانين كما ذكر الحافظ بن حجر هذا العدد الكبير.
ما هو موقفنا من هؤلاء الرواة؟
نقول: نقسم هؤلاء الرواة إلى أقسام:
القسم الأول: مَنْ تُكُلِّم فيه بالجهالة، وقلنا: أنه لا يُقبل الحكم بالجهالة على راوٍ من رواة " الصحيح "
¥