على كل حال سواء قصد ابن حبان هذا أو هذا، هذا يدل على تشدده في التدليس حتى إنه أورد في من يرد عنعنته جماعة ممن يرى غيره أنه مقبولوا العنعنة مثل الثوري والأعمش وأبي إسحاق السبيعي، فإنه بيَّن أنه لا يقبل منهم إلا أن يصرحوا بالسماع مع أن الثوري خاصة منهم الراجح فيه أنه مقبول العنعنة حتى عند الحافظ بن حجر حيث أورده في المرتبة الثانية لقلة تدليسه في جنب ما روى كما بيَّن ذلك في كتابه " تعريف أهل التقديس ".
فالخلاصة: أن ابن حبان كان متشددًا في هذا الأمر، ونص أيضًا في هذا السياق إلى أنه مع اشتراطه ألا يخرج المدلس إلا ما صرح فيه بالسماع فإنه لا يلتزم بذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع، هو لا يصحح إلا حديث قد صرح فيه المدلس بالسماع، لكن لا يلتزم أن يورد الرواية التي فيها التصريح بالسماع في صحيحه، فقد يورد رواية بالعنعنة في صحيحه وهو قد عارض السماع من رواية أخرى عنده، ويقول يصرح بذلك في قوله: " فإذا صح عندي خبر من رواية مدلس أنه بيَّن السماع فيه لا أبالي أن أذكره من غير بيان السماع في خبره بعد صحته عندي من طريق آخر ".
كلام صريح، لأنه لم يلتزم ذكر الرواية التي فيها التصريح بالسماع، وهذا يعود بنا إلى أن نقول: إذًا لا يحق لك أن تنتقد حديث في صحيح ابن حبان بأنه من رواية مدلس وقد عنعنه؛ لأنه لو لم يكن قد صرح بالسماع لما أخرجه ابن حبان في صحيحه على حسب رأيه، وكلنا نعرف أن الاطلاع على الأسانيد ومعرفة هذا الأمر لا يتيسر لنا في هذا الزمان كما كان متيسرًا للحفاظ في الزمن الأول، وسيأتي تأكيد ذلك في ما نستقبل بإذن الله تعالى عندما نتكلم عن مستدرك الحاكم.
يتكلم بعد ذلك ابن حبان عن منهجه في تكرار الأحاديث فإنه يقول: " وأتنكب عن ذكر المعادِ فيه إلا في موضعين إما لزيادة لفظة لا أجد منها بدًا، أو للاستشهاد به على معنى في خبر ثانٍ، فأما في غير هاتين الحالتين فإني أتنكب ذكر المُعادِ في هذا الكتاب ".
يبين أنه لا يميل إلى التكرار بغير فائدة إلا لفائدتين:
إما لزيادة لفظ، أو للاستشهاد به على معنى، كأنه قد يكون بغير واضح في اللفظ الأول فيورده في رواية أخرى ليؤكد على هذا المعنى وليؤكد على صحة استنباطه منه.
من مقاصد ابن حبان في كتابه الحقيقة التي تظهر من مقدمته ومن الكتاب كله أيضًا أنه كان يقصد زيادة عدد الأحاديث الصحيحة عما أخرجه الشيخان أو بخاصة البخاري، ويتبين ذلك من نقده للبخاري في مقدمة الصحيح، نقده المُغلّف المخفي للبخاري لتركه جماعة من الثقات الذين احتاط في شأنهم البخاري فلم يخرج لهم حديثًا كثيرًا أو تركهم بالكلية مثل:
حماد بن سلمة، وأبو بكر بن عياش وأمثالهم، فانتقد عدم الإخراج لأمثال هؤلاء، وكأنه يقول: إنني ما دمت سأؤلف بعد البخاري، والبخاري قد احتاط لأنه أول ممن ألف فيريد أن يخرج أصح الصحيح فالآن أنا أريد سأتمم عمل هذا الإمام فأخرج أحاديث زائدة على عمله، وعندها لا يصح أن احتاط الاحتياط الذي يؤدي بي إلى ترك بعض الصحيح زيادة في التوقي، بل لابد أن أخرج كل ما صح عندي باجتهادي، ولو كان عند غيري ربما توقف فيه أو لم يقبله، ولذلك كثرت الزيادات في زوائد أو في صحيح ابن حبان حتى بلغ عدد هذه الزوائد ألفين وستمائة وسبعة وأربعين حديث، زوائد ابن حبان على الصحيحين، يعني الأحاديث الزائدة في ابن حبان على الصحيحين، ما وافق صحيح البخاري ألفين وستمائة وسبعة وأربعين حديث، يعني أكثر من صحيح البخاري كاملًا، عدد زوائد ابن حبان ألفين وستمائة وسبعة وأربعين، وقلنا بأن عدد أحاديث الكتاب أكثر من سبع آلاف حديث أصلًا، عدد الزوائد منها ألفين وستمائة وسبعة وأربعين، هذا يؤكد على أنه كان يقصد الزيادة على الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وأن هذا كانت مطلبًا من مطالب تأليفه لكتابه.
يبقى التنبيه على مكانة تصحيح ابن حبان:
بَيّنا سابقًا أنه من حيث الشروط لا يختلف عن غيره من حيث الشروط، واتهامه بالتساهل في باب العدالة هذا اتهام كما ذكرت ليس بمتين، وليس بقوي، بل الصحيح أنه مثل غيره في هذا الباب.
هل يعني ذلك أن صحيحه بلغ مرتبة الصحيحين؟
¥