وأما الثالث، وهو أنها تسجد تحت العرش، فنقول: قد اخبر القرآن أن كل شيء في السموات والأرض يسجد لله، كما قال ? ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال ?، وقال: ? ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب ?، وقال: ? النجم والشجر يسجدان ? والآيات في هذا كثيرة. كما قد أخبر أن كل شيء قد أسلم له، وكل شيء يسبحه ? وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ?، ? سبح لله ما في السموات وما في الأرض ?، ولا يراد بذلك سجود كسجود العقلاء. وإنما يعنى به أحد ما يأتي: -
إما أن يكون ذلك عبارة عن الانقياد والخضوع. والناس يسمون هذا سجوداً. كما قال الشاعر:
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
وكما قال آخر:
فكيف بمن لو أنني لحت واقفاً هوى ساجداً من خشيتي وقضى النحبا
-112 -
وكما قال عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الفطام لنا صبياً تخر له الجبابر ساجدينا
والمراد بهذا السجود الخشوع والإنقياد. ويقوي هذا التفسير قوله في الآية ? طوعاً وكرهاً ?، وقوله: ? وظلالهم بالغدو والآصال ?.
وإما أن يكون المراد بالسجود الدلالة على الله. يعني أن هذه المخلوقات تدل على الله، وعلى أنه يستحق أن يسجد له كل شيء، وأن يعبده كل شيء. وهذا مجاز مشهور في اللغة. والتفسير الأول في السجود هو التفسير.
وأما تقييد السجود بأنه يكون تحت العرش فهو مبالغة في الإنقياد وعبارة عن تمام ذلك. كما يقال: فلان يسجد تحت قدمي فلان، ويسجد تحت سريره، وتحت عرش الملك. والمعنى في ذلك المبالغة، ولا تراد الحقيقة. فقوله إنها تسجد تحت العرش يعنى أنها خاضعة له أكمل الخضوع وأتمه.
وأما الأمر الرابع، وهو أنها تستأذن فيؤذن لها، فنقول: غاية ذلك ان يكون مجازاً يراد به طاعتها لخالقها، وطلوعها وغروبها بمشيئته وإرادته، حتى كأنه يأمرها وينهاها فتعقل عنه، وحتى كأنها تستأذنه في رواحها وغدوها. وهذا كله يعبر عن الخضوع. فإن الخاضع يستأذن المخضوع له عادة , ويستأمره فيما يأتي وما يذر، ويسير حسب إذنه. فأطلق الإستئذان وأراد به ما يتبعه عادة، وهو ما ذكرنا. وهذا النوع من التوسع شائع في الكلام. فهم يقولون: هذه الرسوم البالية تخبرنا أن كل شيء بال، وان كل جديد فإلى البلى والزوال. ويقولون: هذه السيوف تشكو طول مكثها في الأغماد، ويقول القائل منهم: شكا إلى جملي وناقتي طول السرى، وشكت هذه الدابة إليّ الجوع والتعب، ويقولون: هذا البيت يخبرنا أن بانيه حاذق بناء، وهذه الصورة تقول إن من رسمني لراسم ماهر. ويقولون: قالت عينا الحبيب سمعاً وطاعة وأمثال ذلك لا يحصى. وطائفة من المفسرين يقولون: إن كل ما نسب إلى الجماد والسماء، والأرض من المقال، والخطاب بينها وبين الله محمول على ذلك. وذلك كقوله في السماء والأرض ? قالتا أتينا طائعين ? ونظائرها المعروفة في القرآن. ومثله استئذان الشمس وسجودها.
-113 -
وأما الخامس، وهو أنها تجري حتى تستقر تحت العرش فيقال: أما الجري فقد ذكرنا معناه. وأما أنه يكون تحت العرش، فيقال: هذا كناية عن رجوعها إلى الله. إذ ليس وراء الله لمخلوق مرجع ولا مذهب فهو كقوله تعالى ? ألا إلى الله تصير الأمور ?، ويقول الناس: " خطاب العرش " وهم يريدون خطاب من على العرش. أو يكون المراد بذلك أنها تستقر تحت العرش أخيراً عندما يأذن الله للساعة بأن تقوم.
وأما الأمر السادس، وهو أنها تطلع من مغربها، فيقال: هذا عندما يأذن الله تعالى للعالم بالخراب والفناء، ليخلق عالماً من أنقاضه أصلح للسكنى وأكثر إراحة لعباده. وهذا من علامات الساعة. والأخبار بأن الشمس تطلع من مغربها في الصحاح.
هذا جملة ما في الحديث مما قد يعد مشكلا قد بان لك أيها القارئ أنه لا يقضي برد الحديث الصحيح. فإن قلت: إن كل ما ذكرت جميل لولا أن قوله ? تذهب حتى تسجد تحت العرش ? يدل على أن السجود غير الذهاب، وغير التصريف والإنقياد. لأنه قد جعل السجود نهاية ذلك وغايته. فلا بد أن يكون السجود المذكور غير ما عبرت عنه بالخضوع.
قلت عن هذا جوابان:
أحدهما ـ أن المراد بالسجود تحت العرش هو وقوعها تحته حقيقة في آخر الدنيا عند إنقضاء مهمتها، وسكون حركتها. والمعنى أن الشمس تبقى في شأنها إلى أن يأذن الله بفساد العالم، فتقع تحت العرش ساجدة. وكل شيء إلى إنقضاء إلا وجه ربنا تعالى.
وثانيهما ـ ان هذا مثل أن تقول: سار فلان حتى سار سيراً متعباً. وسار حتى أجد في السير. وسار حتى إنقطع ظهره من الإعياء. وأمثال هذه الكلمات. وليس جنس الذي قبل (حتى) غير الذي بعدها فيه. على أن (حتى) قد تكون للعطف المطلق كالفاء والواو. وهذا قول مشهور لطائفة من علماء النحو. وعليه يكون سياق الحديث " تذهب فتسجد تحت العرش " إلى آخره. وعلى هذا يخلص الحديث من هذه الشبهة.
وعلى كل حال فالحديث عبارة عن أن الشمس مسخرة لله، خاضعة لأمره الكوني، سائرة على حسب ما أراد وقدر، حتى كأنها عاقلة، تسمع خطابه. والرواية الأخيرة وهي تقول " حتى كأنها قيل لها أرجعي من حيث جئت " تشهد لهذا وتقوي أن يكون الحديث تمثيلاً
-114 -
لحالة الشمس. فالحديث صحيح المعنى مع تدبره ومع إعطائه ما يليق به من التفهم والتعقل
منقول
¥