وقد تمثل هذا في شخصية شيخنا الإمام المحدث عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ حيث كان الشيخ في دروسه شديد العناية بتدريس الكتب الستة، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث وعلومه، وقد كانت طريقته في شرح هذه الكتب على طريقة أئمة الحديث، فمثلاً: إذا قُرئ عليه من (سنن النسائي) أو (جامع الترمذي)،يبدأ الشيخ بالكلام على منهج الكتاب، ثم يتكلم عن رجال الإسناد توثيقاً وتضعيفاً، ثم يحكم على الإسناد بالصحة أو الضعف، ويعتني ببيان درجة الحديث، وذكر العلل، وذكر الشواهد والمتابعات، إن احتاج إليها، وكل هذا من حفظه!
وإذا عرض للشيخ حديث فيه كلام، وأراد أن يتوسع في تخريجه، كلَّف بعض الطلاب ليقوم بذلك، فإذا انتهى الباحث من تخريج الحديث، أمره الشيخ بقراءته، ثم إذا انتهى ذكر الشيخ ما ترجح له في حال هذا الحديث.
وكذا يُقرأ على الشيخ (تقريب التهذيب) أو (تهذيب التهذيب)، إذا أشكل عليه الحكم على راوٍ من الرواة.
وهذه (الصناعة الحديثية) التي تحلت بها دروس الشيخ، قد تفرَّد بها على من كان في طبقته.
وبجانب عناية الشيخ بتدريس كتب الحديث وعلومه، ألف مؤلفات حديثية لها أهميتها، فقد ألف (حاشية على بلوغ المرام)، و (التحفة الكريمة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة والسقيمة)، وعلَّق على (تقريب التهذيب) وعلى غيره من كتب الحديث وعلومه.
واهتمام الشيخ وعنايته بعلم الحديث أمر ظاهر يعرفه من لازم الشيخ وحضر دروسه.
إن مما يجدر التنبيه إليه، أن علم الحديث في عصرنا هذا، أصبح علماً له من يختص به من أهل العلم في (نجد) وليس كما كان في السابق، وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «…في الآونة الأخيرة ـ والحمد لله ـ بدأ الناس يهتمون بعلم الحديث، والنظر في سند الحديث ومتنه، والنظر في كلام أهل العلم فيه، فأصبح هناك اهتمام كبير في طلب علم الحديث، وهو أمر لا بد منه» ().
هذا ومن أهم أسباب عناية أهل العلم في (نجد) بعلم الحديث ـ خاصة في هذا العصر ـ ما يلي:
1 - أن أُصول منهج أئمة الدعوة يعتمد على الاجتهاد وعدم التقليد، وعلم الحديث أهم علوم الاجتهاد.
2 - اتصال أهل العلم ـ في منطقة نجد ـ بكبار المحدثين الذين يفدون إليهم من بعض الأمصار.
3 - ظهور كتب الحديث وعلومه، وانتشارها بين أواسط أهل العلم، وهذا بخلاف ما كان في السابق.
4 - تأثر طلبة العلم بالشخصية الحديثية عند الشيخ عبد العزيز بن باز، وبجانبه تأثرهم بالشيخ الألباني وقراءتهم لمؤلفاته.
هذا ومن ينظر بعين الإنصاف إلى الحركة العلمية في الديار النجدية، يرى أن حلقات العلم في المساجد، وفي بعض المؤسسات العلمية، لها عناية تامة بالحديث وعلومه، ودراسة بعض مسائله المشكلة، في الجرح والتعديل، وتعليل الأحاديث، والحكم عليها.
وقد ظهرت مؤلفات وردود حديثية لبعض أهل العلم، تدل صراحة على تمكنهم من هذا العلم.
وهذا كله ـ بإذن الله ـ مؤذن بخروج أكابر من المحدثين، وعسى أن يكون قريباً ().
ثانياً: ترجمة موجزة للشيخ:
وفيها مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، ومولده:
هو الشيخ الإمام الحافظ المحدث الفقيه البارع شيخ الإسلام ومحدث
الديار النجدية سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن مشرَّف الوهيبي التميمي النجدي ().
ولد في بلدة الدرعية عاصمة الدولة الس
منطقة نجد.
كانت منطقة نجد قبل دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ تعج بالشرك والبدع والمعاصي، والتقليد الأعمى المخالف لأصول الإسلام؛ ولهذا بدأ أئمة الدعوة وعلى رأسهم الإمام محمد بن عبد الوهاب، بالدعوة إلى التوحيد والسنة، واجتناب ماعداهما من الشرك والبدع والمعاصي، وقاموا إلى جانب ذلك بنشر العلم بين الناس، فعقدوا الدروس لتدريس التوحيد والفقه والحديث والتفسير واللغة، إلا أن اهتمامهم البالغ وتركيزهم الدائم كان على تدريس التوحيد والفقه، فأما التوحيد فكان شغلهم الشاغل؛ ولهذا عكفوا على تدريسه ونشره بين الناس، حفظاً وفهماً، وتأليفاً للرسائل والردود.
¥