قوله تعالى: {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً}؛ لما أمر الله عز وجل بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً، ونهياً؛ الأمر: {وليتق الله ربه} يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: {ولا يبخس منه شيئاً} أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.
قوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً}، أي لا يحسن التصرف؛ {أو ضعيفاً}؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون، أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ {أو لا يستطيع أن يمل هو} أي لا يقدر أن يملي لخرس، أو غيره؛ وقوله تعالى: {أن يمل} مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: {هو} للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في {يمل}.
قوله تعالى: {فليملل}: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ {وليه} أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.
قوله تعالى: {بالعدل} متعلق بقوله تعالى: {فليملل} يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و «العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد، ولا ينقص.
قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.
وقوله تعالى: {من رجالكم} الخطاب للمؤمنين.
قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.
وقوله تعالى: {فرجل وامرأتان}: الجملة جواب الشرط في قوله تعالى: {فإن لم يكونا ... }؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و «رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.
وقوله تعالى: {فرجل} أي فذَكَر بالغ؛ و {امرأتان} أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.
قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله تعالى: {ترضون} موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود - أي الرجل والمرأتان - ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب» (204)؛ إذاً العبرة بالرضى عند عموم الناس؛ لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.
وقوله تعالى: {من الشهداء}: بيان لـ «مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.
قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة {أنْ}؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله تعالى: {فتذكر}: تخفيف الكاف: {فتذْكِرَ}، وتشديدها: {فتذَكِّرَ}؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة {إن} مع ضم الراء في قوله تعالى: {فتذكِّرُ}، وتشديد الكاف.
وقوله تعالى: {فتذكر إحداهما الأخرى} من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي؛ ومن غرائب التفسير أن بعضهم قال: {فتذكر} معناه تجعلها بمنزلة الذَّكَر - لا سيما على قراءة التخفيف؛ أي تكون المرأتان كالذَّكَر؛ وهذا غريب؛ لأنه لا يستقيم مع قوله تعالى: {أن تضل إحداهما} فالذي يقابل الضلال بمعنى النسيان: التذكير - أي تنبيه الإنسان على نسيانه.
وفي قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: {فتذكر إحداهما الأخرى}: لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.
¥