نقول وبالله التوفيق/ الإشكال ينحصر في الحروف التي انفرد بها حفص أو غيره من الرواة عن سائر القراء العشر.
وقد سبق القول بأنَّ حفصاً لم ينفرد بهذا الحرف وحده بل شاركه غيره من خارج القراء العشرة في القراءة بهذا الحرف بعينه، وكذلك سمعه أهل بلده، ولم ينكر عليه أحدٌ قراءته، فكان إقراراً منهم بصحة روايته وحروفه التي يقرأ بها.
فهذا هو الجواب بحول الملك الوهاب، فإن كان عندك اعتراض عليه فأبن لنا محل الاعتراض جُزيتَ خيراً.
والاكتفاء بذكر حفص في الإسناد هو من جنس الاكتفاء بابن الجزري في الأسانيد القرآنية المتداولة بين أيدينا حالياً، كما تفضلت في الجواب عن هذا الإشكال:
فكيف تكون متواترة في طبقة ابن الجزري؟ وحل هذا الإشكال من وجهين:
1) أن تلاميذ ابن الجزري وهم كثيرون قد قرؤوا بالقراءات العشر على غير ابن الجزري، كما هو مدون في تراجمهم. ولو أن ابن الجزري شذ بشيء غير معروف عن غيره، لما قبلوه منه. فالإسناد –وإن اكتفي فيه تخفيفاً بذكر ابن الجزري لشهرته وإمامته وعلو سنده– إلا أنه كان معه معاصرون له كثر قرؤوا على شيوخه بما قرأ هو به. وهؤلاء المعاصرون لهم تلاميذ كثيرون تتفرع عنهم أسانيد عديدة تبلغ حد التواتر.
2) أن كتب القراءات المسندة لها أسانيد عديدة مبثوثة في الأثبات الحديثية تبلغ حد التواتر من غير طريق ابن الجزري. وهذه الأسانيد –وإن كانت بالإجازة المجردة عن السماع– إلا أنها مع انضمامها إلى الإسناد المتصل بالسماع المار بابن الجزري، تزيده قوة إلى قوته.
وانفراد القاريء أو الراوي إنما هو اصطلاح (ولا مشاحة في الاصطلاح) بأنه انفرد بهذا الحرف من بين سائر القراء العشرة الذين نقريء لهم بحروفهم المتصلة السند للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وإلا فإنَّ القراء لا يقتصرون على سبعة ولا عشرة، وكذلك الرواة عنهم، لا يقتصرون على اثنين، ولك أن تراجع تراجمهم.
والمعروف أنَّ أول من اقتصر على السبعة هو ابن مجاهد في كتابه السبعة، وقد كان قبله وبعده علماء كثر تلقوا القراءات من غير طريقه زادوا عن السبعة والعشرة، وبعضهم نقص، بحسب ما تأدَّى له.
قال السيوطي -رحمه الله- في الإتقان (1/ 198): ثم لما اتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق قام جهابذة الأمة، وبالغوا في الاجتهاد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا الصحيح والمشهور والشاذ بأصول أصولها وأركان فصلوها.
فأول من صنف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام، ثم أحمد بن جبير الكوفي ثم إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون، ثم أبو جعفر بن جرير الطبري، ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الدجوني، ثم أبو بكر بن مجاهد، ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أنواعها جامعا ومفردا وموجزا ومسهبا. وأئمة القراءات لا تحصى، وقد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أبو عبد الله الذهبي، ثم حافظ القراء أبو الخير بن الجزري. أهـ
فدعوى أنَّ حفصاً انفرد بهذا الحرف أو غيره يحتاج لحصر واسع النطاق (وأئمة القراءات لا تحصى على حد تعبير السيوطي -رحمه الله- وهو الواقع في كل زمانٍ ومكان) لحروف القراء في عصره، حتى نخرج بنتيجة تطمئن إليها النفس قائلين: إنَّ حفصاً هو الشخص الوحيد الذي قرأ بهذا الحرف لم يشاركه فيه غيره، وهذا ما لاسبيل إليه.
وقد ذكرتُ في إحدى المشاركات من تفسير ابن جرير الطبري (والذي قال الأخ/ سامح أنه لا يعرف حفصاً) بعض المواضع التي اتفقت له حروف حفص التي انفرد بها من غير طريقه، فراجعها مشكوراً.
وقد تكفَّل لنا الأئمة القراء المتقنون -جزاهم الله عنَّا وعن الإسلام خيراً- بأن لا يسمحوا أن يُقرأ في القرآن ما ليس منه، ولعلَّهم لذلك اقتصروا على القراء العشرة ورواتهم العشرين دون غيرهم، وبناءً على ذلك وقع اختيارهم على الأئمة القراء والرواة عنهم.
بل أيضاً وهو أظهر وأولى أنَّ هذا من حفظ الله لكتابه، إذ أنَّه - لا سمح الله- لو قريء بقراءات (شاذة تفرد بها أصحابها) وإذا كانت جميع القراءات لا تخلو من حروف انفرد بها القراء والرواة عنهم، فإنَّ القرآن -والحال كذلك- يدخله ما ليس منه، والملتزم في تلاوته بقراءة قاريء من العشرة يلزمه أن يقرأ بحروفٍ ليست من القرآن، وإلا فإنه ينبغي عليه تأليف قراءةٍ جديدة مما اتُفِق عليه لا ما تُفُرِّد به، ولا أعلم قائلاً به.
وإذا كان علماء الحديث لا يقبلون الشاذ (الذي تفرَّد به الثقة مخالفاً من هو أوثق منه) فالأولى بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن لا يُتسامح فيه بمثل ذلك.
وختاماً هداني الله وإياكم إلى الحق، وتقبَّل الله منا ومنكم طاعته، وكل عامٍ وأنتم بخير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
كان من دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأنت تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم
¥