وأنشد العلامة أبو القاسم الشاطبي رحمه الله عما فعله الإمامان أبو بكر وعثمان بأبيات قصيدته المسماة بالعقيلة في بيان رسم المصاحف، فقال:
إنَّ اليمامةَ أهْوَاها مُسَيْلِمَةُ الْـ - ـكذَّابُ فى زَمَنِ الصِّديقِ إذْ خَسِرَا
وبعدَ بأْسٍ شديدٍ حانَ مصْرَعُهُ - وكان بأْساً على القُرَّاءِ مُسْتَعِرَا
نادى أبا بكرٍ الفاروقُ خِفْتُ على الْـ - قُرَّاءِ فادَّرِكِ القُرْآنَ مُسْتَطِرَا
فأجمعوا جَمْعَهُ فى الصُّحْفِ واعتَمَدُوا - زيدَ بن ثابتٍ العدْلَ الرِّضَى نَظَرَا
فقام فيه بعونِ اللهِ يجْمَعُهُ بالنُّصْحِ - والجِدِّ والحَزْمِ الَّذِى بَهَرَا
مِنْ كُلِّ أوجُهِهِ حتى استتمَّ له - بِالأَحْرُفِ السَّبْعَةِ العلْيا كَما اشْتَهَرا
فأمسكَ الصُّحُفَ الصِّديقُ ثم إلى - الفاروقِ أسْلَمَها لما قضى العُمُرَا
وعند حفصةَ كانت بعدُ فاختلف الْـ - قرَّاءُ فاعتزلوا فى أحرُفٍ زُمَرَا
ونقل الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي محيي السنة رحمه الله قال: الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه شيئا، والذي حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث وهو أنه كان مفرقا في العسب و اللخاف وصدور الرجال فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته ففزعوا إلى خليفة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم، وأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوه من رسول الله من غير أن قدموا شيئا أو أخروا أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا، وروي معنى هذا عن عثمان رضى الله عنه، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ختم السورة حتى ينزل? "بسم الله الرحمن الرحيم "فإذا نزل "بسم الله الرحمن الرحيم" عُلم إن السورة قد ختمت.
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم كان يُنزله مفرقا على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته عند الحاجة وحدوث ما يحدث على ما يشاء الله عز وجل.
وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة، وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة رحمة من الله عز وجل لعباده وتحقيقا لوعده في حفظه على ما قال جل ذكره " انا نحن نزلنا الذكر واما له لناصحون".
ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرأون بالقراءة التي أقرأهم إياها، ولقنهم بإذن الله عز وجل إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في 0زمن عثمان وعَظُم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية فشافهه بذالك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم على جمع القرءان على حرف واحد ليزول بذالك الخلاف وتتفق الكلمة، فاستصوبوا رأيه وحَضُّوه عليه، ورأوه أنه من أحوط الأمور للقرآن، فاستحضر الصحف من عند حفصة، ونسخها في المصاحف وبعث بها إلى الأمصار، ورُوي عن أبي عبد الرحمان السلمي قال: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قراها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان علي رضي الله عنه أطول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما، ويقال أن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم على جبريل، وهي التي بين فيها ما نُسخ وما بقي.
ثم قال رحمه الله:
وبعد جوّده الإمام في - مصحف ليقتدي الأنام
ولا يكون بعده اضطراب - وكان فيما قد رأى صواب
فقصة اختلافهم شهيرة - كقصة اليمامة العسيرة
¥