كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: "إن الله بريء من المشركين ورسولُه"، فقال الأعرابي: وأنا أبرأ ممن بريء الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود فوضع النحو.
وفي رواية أخرى أن أبا الأسود الدؤلي هو الذي طلب من زياد أن يأذن له في ذلك، قال أبو بكر بن الأنباري: حدثني أبي قال: حدثنا عمر بن شبّة قال: حدثنا حيان بن بشر قال: حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عباش عن عاصم بن أبي النجود، قال: أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون أو يقيمون به كلامهم؟ قال: لا، فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنونا؟ ادعوا لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم.
وهذه الأثار التي ساقها الإمام الداني والآنباري كلها فيه كلام من جهة الإنقطاع وكذلك من جهة جهالات بعض رجال أسانيدها، فأبو عكرمة والعتبي المذكوران في سند الإمام الداني لا يعرفان عند أهل الحديث ثم يظهر أن بين عكرمة والعتبي انقطاع، وبين أبي عكرمة ومعاوية كذلك، وأما في سند الإمام أبي بكر بن الآنباري ففيه الإبهام حيث قال: وحدثنا بعض أصحابنا، فمن هؤلاء أصحابه؟ وأبو عبد الله القطعي لا يُعرف، وكذلك أبو توبة، أشار إليه البخاري في التاريخ ولم يتكلم عنه بجرح ولا تعديل، وابن جريج من ثقات المسلمين ولكنه يدلس، قال عنه الدارقطني: يُجتنب تدليسه، فإنه فاحش التدليس، لا يدلس إلا فيما قد سمعه من مجروح كإبراهيم بن يحيى وموسى بن عبيدة، وقال الذهبي: وابن جريج إذا قال: حدثني، محتج بحديثه، وبين عاصم وأبي الأسود الدؤلي انقطاع.
وعلى أي حال فهذه الأثار يستأنس بها ولا يجعلها من يدقق مسائل العلم حجة، وأيضا فيها نظر من جهة معانيها أي في منتها، والله أعلم.
وإلى هذا المعنى أشار أبو عبد الله القيسي الفاسي في الميمونة:
وكانت المصاحف العلية - من نقطها وشكلها خلية
وسبب النقط إلى زياد - يعزى لديهم بنص باد
لكنني أذكر منها طرفا - لعل للطالب في ذاك شفا
قال زياد للإمام الآوحد - الدؤلي ذي السنا به اقتد
فإن ذي الحمراء قال كثرت - من ألسن العرب يقول أفسدت
فلو وضعت قال شيئا يصلح - به الورى كلامهم وينجح
ويعرفون قل به الكتاب - أباه قل وكره الجواب
فوجه المرء زياد رجلا - إلى طريقه وقال استعملا
إذا تلوت اللحن في القراءة - وكان ذا المتلو في براءة
فاستعظم اللحن العظيم فرجع - إلى زياد بعدما كان امتنع
فقال ياهذا لقد أجبتك - إلى الذي سألتني أسعفتك
لكن أرى البدء بنقط الذكر - كتاب ربي ذي العلا والقهر
فنقط الحروف ثم الغنة - فسن سنة وتلك جنة
ثم قال رحمه الله:
ووضع الناس عليه كتببا - كل يبين عنه كيف كتببا
أجلها فاعلم كتاب المقنع - فقد أتى فيه بنص مقنع
أخبر أن الناس يعي العلماء وضعوا كتبا على المرسوم الذي أصله عثمان رضي الله عنه والذي جعله أصلا متبعا، وكل واحد من أولائك الناس يبين: أي يفصح ويخبر عن كيفية كتابته من زيادة أو نقص أو حذف أو إثبات أو قطع أو وصل أو غير ذلك، إلا أن العلماء منهم من نقل ذلك من المصاحف العثمانية وبعضهم من مصاحف الأمصار الذي يظن به أنه تبع مصحف مصره، و"كل يبين" حال للناس أوصفة أو مستأنفة،" كيف" حال، والضمير في" أجلها" يعود على الكتب المتقدمة، ثم أخبر إن أجل الكتب المؤلفة في علم الرسم هو كتاب المقنع لأبي عمرو الداني رحمه الله، وينقل عن الناظم رحمه الله أنه قال: إن لأبي عمرو مقنعين أحدهما أكبر من الآخر، هذا وإن العلماء قد اعتنوا بهذا العلم عناية خاصة وألفوا فيه تآليف كثيرة لتكون لكل واحد مرجعا وملاذا، وبها وبغيرها مما يرتبط بعلوم القرآ’ن بقي هذا الكتاب محفوظا، فهي ضبط لكتاب الله، وصون له من أن يدخله التحريف سواء في اللفظ أو في الرسم لأجل هذا قيض الله له أئمة نقلوا كيف كتب هذا القرآن الكريم في المصاحف ليبقى وعد الله الذي وعد "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون" خالدا ما بقيت الدنيا، ثم قال رحمه الله:
والشاطبي جاء في العقيلة - به وزاد أحرفا قليلة
¥