ثانياً: هذه المسألة التي ذكرتها – وفقك الله - مرتبطة بمسألة الأحرف السبعة، بل هي متفرعة عنها، ومبنية على قول بعض العلماء بأن المقصود بالأحرف السبعة هي (سبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو: أقبل، وهلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وأنظر، وأخر، وأمهل، ونحوه). وكلام الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله في جامع البيان ربما أفاد هذا المعنى. فهو يستشهد عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً، أو عذاباً رحمة).
ثالثاً: أن تسمية هذه المسألة (جواز قراءة القرآن بالمعنى) قد ردها كثير من العلماء قديماً وحديثاً.
وممن رأيته ردها أبو بكر الباقلاني في كتابه الانتصار للقرآن 1/ 65 بقوله: (القراء السبعة متبعون في جميع قراءاتهم الثابتة عنهم، التي لا شكوك فيها، ولا أنكرت عليهم، بل سوغها المسلمون، وأجازوها لمصحف الجماعة، وقارئون بما أنزل الله جل ثناؤه، وأن ما عدا ذلك مقطوع على إبطاله وفساده وممنوع من إطلاقه، والقراءة به، وأنه لا يجوز ولا يسوغ القراءة على المعنى دون اتباع لفظ التنزيل، وإيراده على وجهه، وسببه الذي أنزل عليه، وأداه الرسول صلى الله عليه وسلم).
وكذلك الإمام ابن الجزري في النشر بقوله: (أما من يقول بأن بعض الصحابة، كابن مسعود، كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه. إنما قال: نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرأوا كما علمتم).
وردها القاضي أحمد بن عمر الحموي في كتابه القواعد والإشارات في أصول القراءات فقال: (أما ما نقل عن الصحابة بأنهم يجيزون القراءة بالمعنى دون اللفظ كالذي نسب لابن مسعود فلا يصح).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى 13/ 397: (وأما من قال عن ابن مسعود أنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم، وتعال، فاقرأوا كما علمتم، أو كما قال).
فليست النظرية هنا مما يصح أن يسمى (القراءة بالمعنى) كما نفهمه مثلاً في رواية الحديث بالمعنى؛ لأن (القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف أو تثقيل أو غيرهما).
رابعاً: أن المستشرقين هم الذين أثاروا هذه الشبهة في العصر الحديث، وقد دلفوا من خلالها لاتهام القرآن بأنه قد دخله التحريف والتبديل، لأنه يجوز لكل أحد أن يقرأ بما شاء، حتى قال أحد كبارهم وهو بلاشير: فبالنسبة إلى بعض المؤمنين لم يكن نص القرآن بحرفه هو المهم وإنما روحه. وهذه النظرية (القراءة بالمعنى) تعد من أخطر النظريات؛ لأنها تكل تحديد النص القرآني إلى هوى كل شخص وفهمه، يثبته على ما يهواه!
وقد تبع هؤلاء المستشرقين بعض من أبناء المسلمين الذين لم يتدبروا القول، فقد كتب الدكتور مصطفى مندور – عفا الله عنه – في بحث له بعنوان (الشواذ) وكان رسالة علمية مقدمة لكلية الآداب بباريس: (هنالك على الأخص نقطة وقع عليها اتفاق كثيرين هي أن القرآن ربما قرئ بأوجه كثيرة، ولكن الأساس هو أن يحترم المعنى .. )
وقد استدل بقول عمر بن الخطاب: (والقرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذاباً، أو عذاباً مغفرة). وهو نفس معنى حديث أبي بن كعب الذي أوردته.
واستدل كذلك بقول عبدالله بن مسعود القريب منه: (لقد سمعت القراء ووجدت أنهم متقاربون فاقرأوا كما علمتم، فهو كقولكم هلم وتعال).
واستدل كذلك بقصة كاتب الوحي عبدالله بن أبي السرح واستدل بعدها بقصص وأخبار استقاها من كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصبهاني، وكلها من شواذ المسائل والأدلة، واستدل كذلك ببعض القراءات التي مرجعها إلى الاختلاف في اللهجات الذي يحتمله الرسم العثماني.
فهؤلاء المستشرقون ظنوا – جهلاً منهم – أن للصحابة وللتابعين قدرة على التدخل في النص القرآني، توضيحاً لما غمض منه، أو إقامة لخطأ في شكله أو صيغته، أو تضميناً لبعض الاتجاهات اللاهوتية كما يعبر المستشرقون!!
¥