قال: وأقوى ما استدلوا به الاتفاق على أن موسى أفضل من هارون لمكان السجع، قيل في موضع هارون وموسى.
ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل موسى وهارون.
قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعراً، وذلك القدر مما يتفق وجوده من المفحم كما يتفق وجوده من الشاعر.
وأما ما جاء في القرآن من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق غير مقصود إليه، وبنوا الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.
فقال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على حد واحد.
وقال ابن دريد: سجعت الحمامة معناه: رددت صوتها.
قال الاضي: وهاذا غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم.
ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز ولو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز أن يقولوا شعر معجز، وكيف والسجع مما كان تألفه الكهان من العرب. ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات بخلاف الشعر. وقد قال صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الكهان فجعله مذموماً.
وقال: وما توهموا أنه سجع باطل لأن مجيئه على صورته لا يقتضي كونه هو، لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن، لأن اللفظ وقع فيه تابعاً للمعنى.
وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود منه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى انتظم في المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى.
قال: وللسجع منهج محفوظ وطريق مضبوط، من أخلّ به وقع الخلل في كلامه ونسب إلى الخروج عن الفصاحة، كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وأنت ترى فواصل القرآن متفاوتة بعضها متداني المقاطع وبعضها يمتد حتى يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة في ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود.
قال: وأما ذكر من تقديم موسى على هارون في موضع وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع وتساوي مقاطع الكلام فليس بصحيح، بل القاعدة فيع إعادة القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحداً، وذلك الأمر الصعب تظهر فيه الفصاحة وتتبين فيه البلاغة، ولهذا أعيدت كثير من القصص على ترتيبات متفاوتة تنبيهاً بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومتكرراً ولو أمكنهم المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لم تؤد إلى تلك المعاني ونحوها، فعلى هذا القصد بتقديم بعض الكلمات على بعض وتأخيرها إظهار الإعجاز دون السجع، إلى أن قال:
فبان بذلك أن الحروف الواقعة في الفواصل متناسبة مع النظائر التي تقع في الأسجاع لا تخرجها عن حدها ولا تدخلها في باب السجع، وقد بينا انهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، فكان بعض مصاريعه كلمتين وبعضها أربع كلمات، ولا يرون ذلك فصاحة بل يرونه عجزاً.
فلو فهموا اشتمال القرآن على السجع لقالوا نحن نعارضه بسجع معتدل يريد في الفصاحة على طريقة القرآن أه كلام القاضي في كتاب الإعجاز.
ونقل صاحب عروس الأفراح عنه أنه ذهب في الانتصار إلى جواز تسمية الفواصل سجعاً.)