ونظرًا لنفاسة هذه الميمية، ولمكانة القاضي الجرجاني بين العلماء والنقاد، ولما تجسد في شعره من أمارات التشكيل الجمالي، وآيات السمو المضموني الذي حدد أبعاد مكانة العلماء، وما يجب أن يتسم به طالب العلم من إيثار له، وإخلاص من أجله بادرت إلى الإدلاء بدلوي بين الدلاء في هذا الموضوع، إن شعر القاضي الجرجاني رسم لنا بوجه عام الأنموذج الأمثل لما يجب أن تكون عليه النفس البشرية من عزة نفس، وشدة بأس، وإخلاص نية، وسلامة طوية، وما أجمل قوله:
1 - ما تطعمتُ لذةَ العيشِ حتى صرْتُ للبيتِ والكتابِ جليسا
2 - ليس شيءٌ أعزَّ عندي من العلْـ م فَلِمْ أبتغي سواه أنيسا؟
3 - إنما الذُّلُّ في مخالطةِ النَّا س فَدَعْهُمْ وَعِشْ عزيزاً رئيسا
وقوله:
1 - على مُهْجَتِي تَجْني الحوادثْ والدَّهرُ فأمَّا اصطباري فهو ممُتَنِعٌ وعرُ
2 - كأني أُلاقِي كلَّ يومٍ يَنُوبُني بذنبٍ وما ذَنْبي سوى أَنَّني حُرُّ
3 - فإن لم يكن عند الزَّمانِ سوى الذي أضيقُ به ذَرْعاً فعندي له الصبرُ
4 - وقالوا:تَوّصَّل بالخضوعِ إلى الغِنى وما علمُوا أنَّ الخُضوعَ هوالفَقْرُ
5 - وبَيني وبين المالِ بابانِ حَرَّما عليَّ الغِنَى: نفسي الأبيةُ والدهرُ
6 - إذا قال هذا اليُسرُ أَبْصَرْتُ دونه مواقفَ خَيْرٌ من وقوفي بها العُسرُ
7 - إذا قُدِّموا بالوفرِ أَقْدَمْتُ قَبلهمْ بنفسِ فقيرٍ كلُّ أخلاقِهِ وَفْرُ
8 - وماذا على مثلي إذا خَضَعَتْ له مطامعهُ في كفِّ مَنْ حصَلَ التِّبْرُ؟
9 - وأكثر ما عندي لمن قعدتْ به فضائلهُ الإعراض والنَّظرُ الشزرُ
إن هذه النماذج وغيرها مما تضمنها شعره توضح ما أذهب إليه من ضرورة إحلال شعر القاضي الجرجاني المكانة التي تليق به.
وقد دعاني السيد الفاضل الأستاذ: " أبو علي المعامري الجبوري" بتجشم وضعه الميمية بين أيدي القراء الكرام إلى الإشارة إلى بعض الأمور التي تتصل بها، وبنشرات الديوان النفيس لصاحبها، أما ما يتصل بها فأقول: إن لكثير من أبياتها روايات أخرى في المصادر غير الروايات الواردة فيها ربما يحسن الأخذ بها، أضف إلى ذلك أنني وقفت على بعض أبياتها منسوبة لأعرابي على ما سأذكر بعد ذلك، ولم يشر أحد ممن ناشري ديوانه إلى ذلك، أما ما يتصل بديوان بصاحبها فأقول: إنه اشتمل بنشراته الثلاث على بعض الهنات الهينات التي تعتور أي عمل بشري، إذ الكمال لله – سبحانه وتعالى – وحده،والتي يلزم الأشارة إليها لنقترب بالعمل درجة نحو الإتقان.
ونظرًا لاختلاف رواية بعض الألفاظ في عدد غير قليل بين نشرتي للميمية ونشرة الأستاذ " إبراهيم صالح" رأيت إثبات رواية الأبيات المكررة في نشرتي، لنضع بين القارئ الكريم هذه الميمية الرائعة بأكثر من رواية، إذ تعد هذه، إذ تعد هذه الميمية التي قالها القاضي الجرجاني في تعظيم العلم من أعظم ما أثر من الشعر العربي في هذا الموضوع،وهي فضلاً عن ذلك وضعت المثل الأعلى لعزة العلماء،وما يجب أن يكونوا عليه من نزاهة وإنصاف وسمو، ورفعة نفس، واحترام للعلم،وتقدير له،وإنزاله المنزلة التي يستحقها،تلك المنزلة التي جعلت العلماء ورثة الأنبياء،فهذه الميمية تعد – بحق - دستور العلماء،الذي يضمن لهم الحياة الكريمة في ظل التمسك به، وعدم الخروج عليه، وقد نشرتُ من هذه الميمية 21 بيتًا محققة ومخرجة في نشرتي لشعر القاضي الجرجاني، وتأسفت أشد الأسف لضياع بقيتها،ونشر الدكتور "سامي علي جبار" منها (20) بيتًا، ونشر الأستاذ "سميح صالح" منها (26) بيتًا،منها ثلاثة أبيات نسبت للقاضي الجرجاني ولأعرابي،وربما يعزز عدم صحة نسبة هذه الأبيات للقاضي عدم روايتها في الأصل المخطوط للقصيدة الذي نشره الأستاذ " إبراهيم صالح " – والد الأستاذ " سميح"، وجاءت القصيدة على يد الأستاذ " إبراهيم " في 55 بيتًا،ومنها الأبيات المنسوبة للجرجاني والأعرابي والمأخوذة من نشرة نجله، ونشر الأستاذ " إبراهيم " القصيدة عن مخطوط " رياض الآداب ومنازه الألباب لمؤلف مجهول"،أرسله إليه من باريس الدكتور " جليل العطية "، إذن فنشر هذه الميمية بهذا العدد من الأبيات هو ثمرة جهد طائفة من العلماء.
¥