- أمّا الاستعمال: فإنّ قول النّاس: (يا حوجي) هو من باب النُّدبة، والنّدبة –كما عرّفها العلماء-: هي نداء المتفجّع عليه أو المتوجّع منه بـ (وا) أو (يا) , فمن الأوّل قولهم: وا زيداه! ومن الثّاني قولهم: وا رأساه! [7]
ولكي نفقه هذا الاستعمال فإنّه لا بدّ أن نتذكّر جيّدا أنّ نداء المتوجّع منه إمّا لأنّه محلّ الألم كقولك: وا رأساه! وارجلاه، أو لأنّه سبب الألم كقولك: واحسرتاه! ووا مصيبتاه!
فلم يبق إلاّ أن نُلقِي نظرة على معنى قولهم: " وا حوجي ". فيحتمل معنيينَ، هي:
1 - أنّه بمعنى الافتقار والحاجة، فكأنّهم يتوجّعون من حاجتهم وافتقارهم ولا حيلة لهم. والعرب تفعل ذلك للدّلالة على عظيم حزنهم، فـ:" إذا قلت: (وا حزناه) فكأنّك تناديه وتقول له: احضر حتّى يعرفك النّاس فيعذروني فيك " [8].
2 - أو أنّه بالمعنى الثاني، فكأنّهم يتوجّعون من المصيبة والحسرة، ولكنّهم استعملوا لفظ (الحوج) بمعنى السّلامة تفاؤلا برفع المصاب، وله نظائر في كلام العرب، كتسميتهم الّذي له ميل في رجله بالأحنف، والحنف هو الاستقامة على قول، وكإطلاقهم لفظ السّليم على اللّديغ تفاؤلا بشفائه، وعلى المهلكة مفازة، وعلى الأعمى بصيرا، وغير ذلك.
وإليك –أخي القارئ- بعض الفوائد المتعلّقة بهذا الموضوع:
- الفائدة الأولى: جمع الحَوج (حِوجٌ) –كما مرّ-، وجمع (الحاجةِ): حاجٌ، وحاجاتٌ، وحَوائِجُ. وقد نُقِل عن الأصمعيّ تخطئة من جمعها على " حوائج " وأنّه قال: إنّه مولّد [9]، ونقل ابن برّي عن الحريري قوله: " لم أَسمع شاهداً على تصحيح لفظة حوائج إِلاّ بيتاً واحداً لبديع الزّمان، وقد غلط فيه، وهو قوله:
فَسِيَّانِ بَيْتُ العَنْكَبُوتِ وجَوْسَقٌ رَفِيعٌ إِذا لم تُقْضَ فيه الحوائجُ " [10] اهـ
ولكنّ الصّواب جواز هذا الجمع لأمور:
- لأنّ السّماع ورد بذلك، فقد ذكر أبو عمرو بن العلاء والجوهريّ وابن الأعرابيّ وابن برّي وابن منظور وغيرهم أشعارا عن العرب فيها جمع حاجة على حوائج، قال الجوهري رحمه الله ردّا على الأصمعيّ: " وإِنّما أَنكره لخروجه عن القياس [11]، وإِلاَّ فهو كثير في كلام العرب ".
وقد ورد حديث لو صحّ لكفى به حجّةً، ألا وهو حديث: ((اِسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الحَوَائِجِ بِالكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ)) [12].
- ثمّ إنّ قول الأصمعيّ ومن وافقه يعارَض بما ذكره الخليل بن أحمد رحمه الله، فقد قال في " العين ": " والحاجُ: جمع حاجة، وكذلك الحوائج والحاجات "، وممّن أثبته سيبويه –على قول ابن برّي-.
وعن أَبي عمرو بن العلاء-شيخ زمانه- أَنّه يقال: في نفسي حاجَةٌ وحائجة وحَوْجاءُ والجمع حاجاتٌ وحوائجُ وحاجٌ وحِوَجٌ. وذكر ابن السكيت في كتابه " الأَلفاظ " باب الحوائج: يقال في جمع حاجةٍ حاجاتٌ وحاجٌ وحِوَجٌ وحَوائجُ. وكذلك أثبته ابن جنّي في "اللّمع"، وابن دريد في " المخصّص"، وغيرهم من أئمّة اللّسان العربيّ.
- ولو فرضنا أنّه مخالف للقياس، فيُجاب عن ذلك بما ذكره النّحويّون، فقد قالوا: إنّه جمع لواحد لم يُنطَق به وهو حائجة، بل قد سُمِعَ حائِجَةٌ لغة في الحاجةِ. فلو صحّ قولهم لكانت كلمة حوائج موافقة للقياس.
- وأخيرا، فقد قال ابن منظور رحمه الله: " قد حكى الرّقاشي والسجستاني عن عبد الرحمن عن الأَصمعي أَنّه رجع عن هذا القول، وإِنّما هو شيء كان عرض له من غير بحث ولا نظر، قال: وهذا الأَشبه به، لأَنّ مثله لا يجهل ذلك إِذ كان موجوداً في كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكلام العرب الفصحاء، وكأَنّ الحريريّ لم يمرّ به إِلا القول الأَوّل عن الأَصمعي دون الثاني والله أَعلم ".
تنبيه: قلت ضمن كلامي السّابق: " والحنف هو الاستقامة على قول "، ذلك لأنّه شاع في تفسير كلمة (الحنيف) في قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ونحوه، أنّ الحنيف هو المائل عن الشّرك، ومنهم من لا يذكر غيره، واستدلّوا على ذلك بأنّ (الحنف) هو الميل في الرّجل، ومنه قول أمّ الأحنف ابن قيس:
واللهِ لولا حنفٌ برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله.
والحقّ أنّه يمكن أن يكون بمعنى المستقيم على التّوحيد، وذلك يستلزم الميل عن الشّرك، وبمعنى الاستقامة فسّره محمّد ابن كعب القرظي وعيسى بن جارية " [13].
¥