ولم يذكر الطّبريّ بدوره غيرَه فقال: " وأمّا الحنيف، فإنّه المستقيم من كلّ شيء. وقد قيل: إنّ الرجل الّذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنّما قيل له (أحنف) نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك ".اهـ
وقال ابن قتيبة رحمه الله: " الحنف الاستقامة، وسمّي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليماً " [14].
حَوْز
- (حَاوَزْ): تستعمل العامّة هذه الكلمة وتريد بها الطّرد والإبعاد، فيقولون: حاوزْته، وحاوزني، بمعنى طردني وأبعدني.
وأصل الكلمة من سير الإبل إذا سارت سيرا رويدا، تقول العرب: حَوَّزَها ساقها سوقاً رُوَيْداً ... ويقال حُزْها، أَي: سُقْها سوقاً شديداً، والأَحْوَزِيّ هو السائق الخفيف، وتَحَوَّز عنه وتَحَيَّزَ إِذا تَنَحَّى، وتَحَوَّزَ له عن فراشه تَنَحَّى.
ومنه الانحياز، إذا ترك القومُ مَرْكَزهم ومَعْركة قتالهم ومالوا إِلى موضع آخر، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال].
فأكثر ما تستعمل العرب هذه الكلمة إنّما هي في التّنحية برفق وأناة، وبذلك ندرك الفرق بين الطّرد والحوز، فالطّرد غالبا يكون بشدّة وقسوة، والحوز يكون رويدا.
ومن أجل ذلك أطلق على امتلاك الشّيء، فقالوا: حُزْتُ السّلعة وحاز المتاع، لأنّ الأمر مبنيّ على السَّوق اللّيّن والضمّ برفق، ومنه قول الله تعالى لعيسى عليه السّلام يوم خروج يأجوج مأجوج: ((فَحَوِّزْ [15] عبادي إِلى الطُّور)) أَي ضُمَّهم إِليه.
تنبيه: ولعلّك تريد أن تسأل عن المدّ الزّائد في لغة العامّة، فإنّهم لا يقولون: حوِّزه، أو حُزه، ولكنّهم يقولون: حاوزه، ومعلوم أنّ المفاعلة تدلّ على وقوع الفعل من اثنين، وهو غير مراد في كلامهم.
فنقول: ولِمَ لا يمدّون وإنّك لترى كثيرا من المتعلّمين يقولون " الآذان "–الّذي هو الإعلام بدخول وقت الصّلاة- بدلا من الأذان؟ فاضطرّت العامّة إلى أن يجمعوا "الآذان"-الّتي هي آلة السّمع- جمعا غريبا، لا جمع ولا مثنّى عند علماء العربيّة، تخاله من لفظه أَكْلَةً شعبيّة!!
وتسمعهم يقولون: لاحظته، بدلا من لحظته، والفرق واضح، فالملاحظة تقع من اثنين كلّ منهما يلحظ صاحبه، أمّا الملحوظة فمعناها الشّيء الّذي يلحظه المرء ويلفت انتباهه.
وتسمعهم يقولون: ساهمت يريدون بذلك الاشتراك في الشّيء، والصّواب: أسهمت من الإسهام، أمّا (ساهمت) فمعناها إجراء القرعة، ومنه قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصّافّات]. وغير ذلك.
ويمكننا أن نعتذر لهم عن المدّ الزّائد في (حاوز) بأحد أمرين:
الأوّل: ربّما كان أوّل من أدخل هذا المدّ طالب علم، فأزال التّشديد الّذي يفيد التّعدية من (حوّز)، وأعاضه بصيغة (فاعل) الّتي تفيد التّعدية أحيانا، فإنّ الفعل اللاّزم يمكن أن يصير متعدّيا إذا حوِّل إلى صيغة (فاعل)، نحو: ماشَيتُه [16].
أو أنّه قاس على بعض الأفعال الّتي تأتي على وزن (فاعل) ومعناها (فعل)، كقولك: عاقبت اللصّ، وسافرت، قال مكّي بن أبي طالب رحمه الله:" وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللصّ، والفعل من واحد " اهـ[17]. وفي كلا الحالتين يكون قد جانب الصّواب لأنّ ذلك قليل يحتاج إلى دليل، والله أعلم.
الثّاني: أنّهم وهِموا فخلطوا فعلا بآخر، فالمُحاوَزَةُ في اللّغة المخالطة، وحاوَزَه: خالطه. [18]
(فائدة): من الأسماء الّتي تطلق على الإناث في أرياف بلادنا (حِيزيّة)، فهل لهذا الاسم تعلّق بما ذكرنا؟
فنقول: الأصل أن يقال: حوزيّة، بالواو لا بالياء، قال الأَعشى يصف:
إِبلاً حُوزِيَّة طُوِيَتْ على زَفَراتِها طَيَّ القَناطِرِ قد نَزَلْنَ نُزُولا
والمعنى: أنّها مُنْقَطِعَة القَرِينِ، إذ انحازت عن الجميع بأوصاف فائقة.
وإنّما قلبوا الواو ياءً، فكسروا ما قبلها.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.
¥