ومن الشّواهد على ذلك أيضا قول رجل (مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ) والحديث في صحيح البخاري، وكان ذلك يوم سقيفة بني ساعدة.
و (الْعُذَيْق) -بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة تَصْغِير عَذْق- وهو النّخلة، والمرجَّب -بالجيم- أي يدعّم النّخلة إذا كثر حملها.
و (الْجُدَيْل):-بالتّصغير أيضا- والجدل عود ينصب للإبل الجرباء لتحتكّ فيه، لذلك وصفه بـ: (الْمحكّك)، فأراد رضي الله عنه أنّه يستشفى برأيه [انظر " فتح الباري "].
والشّاهد، أنّه صغّر هاتين اللّفظتين وهو لا يريد التّحقير، ولكنّه يريد المدح والتّعظيم.
فقد بانت لكم بذلك طريق ومحجّة، وهو مذهب الكوفيّين وحسبكم بهم حجّة.
ثمّ اعلم يا أُخَيَّ، أنّ التّصغير قد يستعمل للاستعطاف والترحّم والتّقريب، وكلّ هذه المعاني يشملها تصغيرك لكلمة " أبي "، ويدلّ على ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم –كما في الصّحيحين وهو يتحدّث عمّن تمنعهم الملائكة من ورود الحوض-: ((أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي)) فهو صلّى الله عليه وسلّم –على أحد التّأويلات- مشفق متحسّر عليهم.
فوائد عارضة:
- الأولى: لاميّة لبيد رضي الله عنه هذه، منها البيت الّذي قال عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ")) [رواه البخاري]، وتتمّته: " وكلّ نعيم لا محالة زائل "، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يتمّه لبطلان معنى العموم الّذي حواه، فإنّ نعيم الجنّة دار السّلام لا ينفد. وقيل: لم يُتمّه لأنّه صلّى الله عليه وسلّم منزّه عن قول الشّعر، وما ثبت أنّه أنشده إنّما هو بيت أو بيتان من الرّجز الّذي لم يعدّه بعضهم شعرا، والصّواب القول الأوّل والله أعلم.
- الثّانية: قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي)) لا يعني به أصحابه الّذين نصروه وعزّروه واتّبعوا النّور الذي أنزل معه باتّفاق علماء أهل السنّة، وإنّما المقصود إمّا المنافقون الّذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، أو أهل الرّدّة وجُفاة العرب، لذلك حمل بعضهم التّصغير في هذا الحديث على التّقليل، فقد كانوا قلّة. كما أنّه يحمل أيضا-كما ذكر النّوويّ- على العصاة وأهل البدع من هذه الأمّة الّذين غيّروا وبدّلوا، لذلك جاء في رواية الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أنّه صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: ((إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُهُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَلَيُقَطَّعَنَّ رِجَالٌ دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: يَا رَبِّ أُمَّتِي! أُمَّتِي! فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ))، فهذه ذكرى لكلّ مدّكر، ولا داعي لأن يصطاد الرّافضة في الماء العكِر. ولئلاّ تغصب علينا الأمّهات، ويحرمننا من بعض الدّعوات، فإليهنّ:
- أُمَّ: فيستعلمون لنداء الأمّ أو الإخبار عنها كلمة (أُمَّ) أو (أُمّا)، وهي لغة في نداء كلّ اسم صحيح مضاف إلى ياء المتكلّم، قال ابن مالك رحمه الله في " الخلاصة ":
(وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا)
فقولهم " أمَّ " من الثّالث كـ (عبدَ) و" أُمَّا " من الرّابع كـ (عَبْدَا)، قال الإمام ابن عقيل رحمه الله عن المنادى المضاف إلى ياء المتكلّم:
إن كان صحيحا جاز فيه خمسة أوجه:
أحدها: حذف الياء، والاستغناء بالكسرة، نحو " يَا عَبْدِ "، وهذا هو الأكثر.
الثّاني: إثبات الياء ساكنة، نحو " يَا عَبْدِي " وهو دون الأوّل في الكثرة.
الثّالث: قلب الياء ألفا، وحذفها، والاستغناء عنها بالفتحة، نحو " يَا عَبْدَ ".
الرّابع: قلبها ألفا وإبقاؤها، وقلب الكسرة فتحة، نحو " يَا عَبْدَا ".
الخامس: إثبات الياء محركة بالفتح، نحو " يا عبدي ".
وفاته رحمه الله وجه سادس لم يذكره، وهي " يا عَبْدُ "، استدركه عليه ابن هشام رحمه الله في " أوضح المسالك ".
¥