ومعنى ذلك أنّ الثّمرة إذا بيعت بعد بدوّ الصّلاح، وسلّمها البائع إلى المشتري بالتّخلية بينه وبينها، ثمّ تلفت قبل أوان الجذاذ فإنّها من ضمان البائع، وهو مذهب مالك وأحمد رحمهما الله، وذهب الجمهور إلى أنّه بمجرّد التّخلية فإنّها من ضمان المشتري.
والصّواب -والله أعلم- قول الإمامين مالك وأحمد، لما رواه مسلم أيضا عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟!)).
ومفهوم ذلك أنّه لو تلِفت قبل التّسليم فلا خلاف في أنّها من ضمان البائع.
الثّانية: من مصادر الفعل (جاح) الجَوْح والجِيَاحَة! .. و (الجياحة) لفظة يُطلقها العامّة على كلّ تصرّف غبيّ سفيه .. فلعلّهم أرادوا بذلك: العدول عن المحجّة والصّواب، أو أنّهم أطلقوا المصدر وأرادوا اسم المفعول، فيكون المعنى: مجتاح العقل والحكمة. وإطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول لا يكاد يُحصَى في كلام العرب، فتطلق القرض على المقروض، والرّهن على المرهون وغير ذلك. فالسّفيه لمّا كان قد استُأصِل رُشده وعقلُه أطلق عليه ذلك.
ولك أن تقول: فلماذا قالوا: (جايح)، وكان القياس أن يقولوا: مجوح، فهو ليس فاعلا وإنّما مفعول به؟
فنقول بيانا لعلقة العامّية بالفصاحة، راجين أن نكون قد جانبنا الجِياحة: الجواب من وجهين:
أوّلا: أنّ اسم الفاعل والصّفة المشبّهة تعني قيام الصّفة بالاسم، وليس بالضّرورة أن يكون فاعلا لها، ألا ترى أنّك تعتبر (ميّت، ومريض) من أسماء الفاعلين؟
ثانيا: من بلاغة العرب أنّهم يطلقون اسم الفاعل ويريدون اسم المفعول أحيانا، كما أنّهم يطلقون اسم المفعول ويريدون اسم الفاعل، وهو ما يعرف بالمجاز العقليّ، قال الخطيب القزويني رحمه الله: " هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل ".
فانظر مثلا إلى قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} [الإسراء]، والحجاب يكون ساترا لا مستورا، ولكن لو قال (ساترا) لاحتمل أن يكون السّتر خفيفا، فلمّا قال (مستورا) فهمنا أنّه شديد قويّ منيع، فكأنّه لكثافته مستور بستر آخر، ونظيره قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [من الأنعام: 25] فهو غطاء فوق غطاء.
ثمّ انظر إلى قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} [الطّارق]، أي: مدفوق، فهو أطلق اسم الفاعل وأراد اسم المفعول، لأنّ ماء الرّجل يُدفَق ولا يدفِق نفسه، ولكنّه لمّا كان يُدفق على دفعات وكانت الدّفقة الواحدة تدفع الأخرى سمّاه (دافقا)، والله أعلم.
فكذلك الحال مع كلمة (جايح)، فهو مستأصَل الرّشد لا مستأصِل، ولكنّه لمّا خرج عن الجادّة بالتّقصير، وسوء التّدبير، وضعف في التّفكير، اعتُبِر هو من استأصل نفسه بنفسه.
الثّالثة: ما علاقة (جُحَا) بهذه الكلمة؟ فأقول:
أوّلا: اعلم أنّه ليس بالضّرورة أن تكون ثمّة علاقة، ووجود الجيم والحاء لا يفرِض الخلّة والصّداقة، وإلاّ لركِبنا الهوس والجنون، وفرضنا علاقة بين ذلك ونهر (جيحون)!! ..
ثانيا: (جحا) من الرّجال الّذين قيل عنهم الكثير والكثير، حتّى صار على لسان كلّ صغير وكبير، ويُحكى عنه ما هو أشبه بالأساطير .. فمنهم من جعله مثلا للحمق كما في كتب الأمثال، ومنهم من جعله في غاية العقل والفطنة والكمال، ومنهم من نفاه وجعله من نسج الخيال.
وقد ذكروا أنّه دجين بن ثابت أبو الغصن الكوفيّ الفزاريّ، الّذي توفّي نحو 130 هـ/ 747 م)، ولكنّ الحافظ الذّهبي في " سير أعلام النّبلاء" والحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " نفيَا ذلك، قال الذّهبي: " وأخطأ من زعم أنه جحا صاحب تيك النّوادر ".
والّذي يبدو أنّه أسطورة أو أنّه اسمٌ أطلِق على عدد من الرّجال، ذلك لأنّه -حَسَب ما ذكره شارل بلا- أنّ الجاحظ كان أوّل مؤلِّف عربيّ ذكر جحا في مؤلّفاته، ذكره في رسالة عن عليّ رضي الله عنه والحكمين، وذكره في " كتاب البغال " [انظر محاضرة شارل بلا في جريدة " الحياة البيروتيّة "].
¥