ويؤيّد ذلك أنّ جحا عرفته الشّعوب الأخرى بأسماء متشابهة، فجحا الرّومي اسمه (خجا)، وفي آسيا الوسطى (دجا)، وفي مالطة (جيهان) وفي بلاد السّكسون (جوكا)، والكتاب (نوادر جحا) المطبوع بمصر وبيروت والمترجم عن التّركية إنّما هي في أخبار جحا الرّومي، لا العربيّ، وفي مقابله ألّف بعض العرب كتابا آخر سمّاه " نوادر جحا " أيضا ذكره ابن النّديم في " الفهرست " وبوّب قائلا: "أسماء قوم من المغفّلين ألِّف في نوادرهم الكتب لا يعلم من ألّفها ".
ولذلك نفا وجوده أحد الكتّاب وهو محمد فريد أبو حديد في مجلّة " العربي " العدد 41 ص 66.
ومع كلّ ذلك، وبالنّظر إلى أنّ أكثرهم يجعله مثلا للغباء، فإنّه يمكن أن يكون لاسمه علقة بكلمتنا، فقد قال الزّمخشريّ في " المستقصى في أمثال العرب " عن (جحا): " علم معدول عن جَاحٍ، وهو في الأصل اسم فاعل من جحي إذا مال في أحد شقّيه معتمداً على القوس في الرمي "، فانظر إلى قوله: " إذا مال "، تذكّرك بأصل (جاح) أنّها مجانبة الصّواب.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
البيان والتّوضيح لما في العامّية من الفصيح (6)
حرف الحاء
(حَوْج)
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فممّا درج عليه النّاس في كثير من مناطق الجزائر-حرسها الله-، قولهم عند الفزع أو الهلع، واستعاروها للاستغراب والتعجّب: " حَوْجِي! " و" واحَوْجِي " و" ياحوجي ".
واللّفظ -بحمد الله- فصيح، والاستعمال صحيح.
- أمّا اللّفظ: فإنّ (الحَوج) له معنيان:
- الأوّل: هو الحاجة، ويجمع على (حِوَجٍ) [1]، قال:
لعمري لقد ثبّطتني عن صحابتي ... وعن حُوجٍٍ قِضَّاؤُها [2] من شفائيا [3]
و (التَحَوُّجُ) هو:" طلب الحاجة بعد الحاجة "، والافتقار [4].
- الثّاني: هو السَّلامَةُ، تقول العرب: حَوْجاً لَكَ، أي سلامَةً [5]، وهي لغة يمانيّة، يقول الرّجل للرّجل إذا عثر أو عند المصيبة: حوجاً لك [6].
فإذا علمنا أنّ للكلمة أصلا في اللّغة، فبقي أن ننظر في استعمالها عند الفزع والجزع.
- أمّا الاستعمال: فإنّ قول النّاس: (يا حوجي) هو من باب النُّدبة، والنّدبة –كما عرّفها العلماء-: هي نداء المتفجّع عليه أو المتوجّع منه بـ (وا) أو (يا) , فمن الأوّل قولهم: وا زيداه! ومن الثّاني قولهم: وا رأساه! [7]
ولكي نفقه هذا الاستعمال فإنّه لا بدّ أن نتذكّر جيّدا أنّ نداء المتوجّع منه إمّا لأنّه محلّ الألم كقولك: وا رأساه! وارجلاه، أو لأنّه سبب الألم كقولك: واحسرتاه! ووا مصيبتاه!
فلم يبق إلاّ أن نُلقِي نظرة على معنى قولهم: " وا حوجي ". فيحتمل معنيينَ، هي:
1 - أنّه بمعنى الافتقار والحاجة، فكأنّهم يتوجّعون من حاجتهم وافتقارهم ولا حيلة لهم. والعرب تفعل ذلك للدّلالة على عظيم حزنهم، فـ:" إذا قلت: (وا حزناه) فكأنّك تناديه وتقول له: احضر حتّى يعرفك النّاس فيعذروني فيك " [8].
2 - أو أنّه بالمعنى الثاني، فكأنّهم يتوجّعون من المصيبة والحسرة، ولكنّهم استعملوا لفظ (الحوج) بمعنى السّلامة تفاؤلا برفع المصاب، وله نظائر في كلام العرب، كتسميتهم الّذي له ميل في رجله بالأحنف، والحنف هو الاستقامة على قول، وكإطلاقهم لفظ السّليم على اللّديغ تفاؤلا بشفائه، وعلى المهلكة مفازة، وعلى الأعمى بصيرا، وغير ذلك.
وإليك –أخي القارئ- بعض الفوائد المتعلّقة بهذا الموضوع:
- الفائدة الأولى: جمع الحَوج (حِوجٌ) –كما مرّ-، وجمع (الحاجةِ): حاجٌ، وحاجاتٌ، وحَوائِجُ. وقد نُقِل عن الأصمعيّ تخطئة من جمعها على " حوائج " وأنّه قال: إنّه مولّد [9]، ونقل ابن برّي عن الحريري قوله: " لم أَسمع شاهداً على تصحيح لفظة حوائج إِلاّ بيتاً واحداً لبديع الزّمان، وقد غلط فيه، وهو قوله:
فَسِيَّانِ بَيْتُ العَنْكَبُوتِ وجَوْسَقٌ رَفِيعٌ إِذا لم تُقْضَ فيه الحوائجُ " [10] اهـ
ولكنّ الصّواب جواز هذا الجمع لأمور:
- لأنّ السّماع ورد بذلك، فقد ذكر أبو عمرو بن العلاء والجوهريّ وابن الأعرابيّ وابن برّي وابن منظور وغيرهم أشعارا عن العرب فيها جمع حاجة على حوائج، قال الجوهري رحمه الله ردّا على الأصمعيّ: " وإِنّما أَنكره لخروجه عن القياس [11]، وإِلاَّ فهو كثير في كلام العرب ".
¥