وقد ورد حديث لو صحّ لكفى به حجّةً، ألا وهو حديث: ((اِسْتَعِينُوا عَلَى إِنْجَاحِ الحَوَائِجِ بِالكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ)) [12].
- ثمّ إنّ قول الأصمعيّ ومن وافقه يعارَض بما ذكره الخليل بن أحمد رحمه الله، فقد قال في " العين ": " والحاجُ: جمع حاجة، وكذلك الحوائج والحاجات "، وممّن أثبته سيبويه –على قول ابن برّي-.
وعن أَبي عمرو بن العلاء-شيخ زمانه- أَنّه يقال: في نفسي حاجَةٌ وحائجة وحَوْجاءُ والجمع حاجاتٌ وحوائجُ وحاجٌ وحِوَجٌ. وذكر ابن السكيت في كتابه " الأَلفاظ " باب الحوائج: يقال في جمع حاجةٍ حاجاتٌ وحاجٌ وحِوَجٌ وحَوائجُ. وكذلك أثبته ابن جنّي في "اللّمع"، وابن دريد في " المخصّص"، وغيرهم من أئمّة اللّسان العربيّ.
- ولو فرضنا أنّه مخالف للقياس، فيُجاب عن ذلك بما ذكره النّحويّون، فقد قالوا: إنّه جمع لواحد لم يُنطَق به وهو حائجة، بل قد سُمِعَ حائِجَةٌ لغة في الحاجةِ. فلو صحّ قولهم لكانت كلمة حوائج موافقة للقياس.
- وأخيرا، فقد قال ابن منظور رحمه الله: " قد حكى الرّقاشي والسجستاني عن عبد الرحمن عن الأَصمعي أَنّه رجع عن هذا القول، وإِنّما هو شيء كان عرض له من غير بحث ولا نظر، قال: وهذا الأَشبه به، لأَنّ مثله لا يجهل ذلك إِذ كان موجوداً في كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكلام العرب الفصحاء، وكأَنّ الحريريّ لم يمرّ به إِلا القول الأَوّل عن الأَصمعي دون الثاني والله أَعلم ".
تنبيه: قلت ضمن كلامي السّابق: " والحنف هو الاستقامة على قول "، ذلك لأنّه شاع في تفسير كلمة (الحنيف) في قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ونحوه، أنّ الحنيف هو المائل عن الشّرك، ومنهم من لا يذكر غيره، واستدلّوا على ذلك بأنّ (الحنف) هو الميل في الرّجل، ومنه قول أمّ الأحنف ابن قيس:
واللهِ لولا حنفٌ برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله.
والحقّ أنّه يمكن أن يكون بمعنى المستقيم على التّوحيد، وذلك يستلزم الميل عن الشّرك، وبمعنى الاستقامة فسّره محمّد ابن كعب القرظي وعيسى بن جارية " [13].
ولم يذكر الطّبريّ بدوره غيرَه فقال: " وأمّا الحنيف، فإنّه المستقيم من كلّ شيء. وقد قيل: إنّ الرجل الّذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنّما قيل له (أحنف) نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك ".اهـ
وقال ابن قتيبة رحمه الله: " الحنف الاستقامة، وسمّي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليماً " [14].
حَوْز
- (حَاوَزْ): تستعمل العامّة هذه الكلمة وتريد بها الطّرد والإبعاد، فيقولون: حاوزْته، وحاوزني، بمعنى طردني وأبعدني.
وأصل الكلمة من سير الإبل إذا سارت سيرا رويدا، تقول العرب: حَوَّزَها ساقها سوقاً رُوَيْداً ... ويقال حُزْها، أَي: سُقْها سوقاً شديداً، والأَحْوَزِيّ هو السائق الخفيف، وتَحَوَّز عنه وتَحَيَّزَ إِذا تَنَحَّى، وتَحَوَّزَ له عن فراشه تَنَحَّى.
ومنه الانحياز، إذا ترك القومُ مَرْكَزهم ومَعْركة قتالهم ومالوا إِلى موضع آخر، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال].
فأكثر ما تستعمل العرب هذه الكلمة إنّما هي في التّنحية برفق وأناة، وبذلك ندرك الفرق بين الطّرد والحوز، فالطّرد غالبا يكون بشدّة وقسوة، والحوز يكون رويدا.
ومن أجل ذلك أطلق على امتلاك الشّيء، فقالوا: حُزْتُ السّلعة وحاز المتاع، لأنّ الأمر مبنيّ على السَّوق اللّيّن والضمّ برفق، ومنه قول الله تعالى لعيسى عليه السّلام يوم خروج يأجوج مأجوج: ((فَحَوِّزْ [15] عبادي إِلى الطُّور)) أَي ضُمَّهم إِليه.
تنبيه: ولعلّك تريد أن تسأل عن المدّ الزّائد في لغة العامّة، فإنّهم لا يقولون: حوِّزه، أو حُزه، ولكنّهم يقولون: حاوزه، ومعلوم أنّ المفاعلة تدلّ على وقوع الفعل من اثنين، وهو غير مراد في كلامهم.
¥