[المثل القرآني لتحقير معبودات الكافرين]
ـ[أبو صلاح الدين]ــــــــ[24 Nov 2005, 01:37 م]ـ
جعفر السبحاني
[المثل القرآني لتحقير معبودات الكافرين]
قال سبحانه: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين * الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) البقرة/ 26 - 27.
- تفسير الآيات:
الحياء تغيّر وانكسار يعتري الانسان من تخوف ما يعاب به ويُذمّ، يقال: فلان يستحي أن يفعل كذا، أي أن نفسه تنقبض عن فعله.
فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنه لا يجوز عليه التغير والخوف والذم؟
الجواب: ان إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه، فإنها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة، ويؤخذ بنتائجها، وقد اشتهر قولهم: (خذوا الغايات واتركوا المبادئ) فالحياء يصد الانسان عن إبراز ما يضمره من الكلام، والله سبحانه ينفي النتيجة، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق، قال سبحانه: (فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) الأحزاب/ 53.
وأما ضرب المثل فهو أن لاستخدام كلمة (ضرب المثل) في التمثيل بالأمثال وجوهاً:
منها: أن ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو حدوث أثر خاص فيها، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه.
البعوضة: حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل، أجوف وله قوة ماصة تسحب الدم، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته، وتتمتع بحساسية فائقة، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان مؤخراً ان البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.
يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير: (إنما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله سبحانه أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته).
إلى هنا تم تفسير مفردات الآية، وما تفسير الآية برمتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجهين:
الأول: ان الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، أعني قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) وقوله: (أو كصيّب من السماء) قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الثاني: انه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره، فأنزل الله هذه الآية.
ولا يخفى ضعف الوجه الأول، فإن المنافقين لم ينكروا ضرب المثل، وإنما أنكروا المثلين اللذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لرد استنكارهم، لأنهم أنكروا المثلين اللذين وردا في حقهما، فلا يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة رداً على اعتراضهم.
وأما الثاني، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة، لأن الأول ورد في سورة الحج وهي سورة مكية، والآخر ورد في سورة العنكبوت وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي (ص) جواباً على اعتراض المشركين في موطنه؟
وعلى كل تقدير فالآية بصدد بيان أن الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال، وإنما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.
¥