تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الاية الاولى: اقرأ ....]

ـ[عزام عز الدين]ــــــــ[27 Feb 2006, 04:03 ص]ـ

المكان: مكة،شعابها بالتحديد.

الزمان: القرن السادس الميلادي. قرن نموذجي للأوضاع السيئة التي تسقط فيها الإنسانية بين عصر وآخر. قرن غارق في ظلمة حالكة. الاستغلال يضرب بإطنابه في العلاقات بين البشر.

والحروب تصبغ وجه العالم بلون الدم. والأديان السماوية لم تعد سماوية بأي شكل من الأشكال وسقطت بين فكي الإفراط والتفريط ولم تنج من مظاهر الوثنية والشرك التي اقتبستها من المدنيات الأخرى ….

والمعادلة القديمة إياها: الأغنياء يزدادون غنى. والفقراء يزدادون فقراً.

والظلم. الظلم. الظلم.

المناسبة: فرصة البشرية الاخيرة، لتغيير ذلك كله.

* * *

وذلك الرجل، ينسحب من مجتمعه الجاهلي بكل تقاليده وعاداته ومكرساته، ليدخل الغار، متأملاً في ذلك كله، ومتعبداً دون طقس معين …

وذلك الغار: حفرة في الجبل، ظلمة ورطبة. تعطي لذلك الرجل ما يريده: عزلته السرية وتأملاته الخاصة. في ظلمة الغار يجد عزاء ومواساة للظلمات الأخرى التي يغرق فيها المجتمع … وفي رطوبته ما ينسي ولو مؤقتاً ذاك الجفاف الذي يطغي على العالم في طبيعة علاقاته وعاداته ….

ولم يكن هذا الرجل بدعاً من هؤلاء الرجال المنسحبين …

ففي كل مكان من أرجاء المعمورة كان هناك رجال يأبى رصيد فطرتهم الانخراط فيما انخرطت فيه مجتمعاتهم، فينسحبون إلى الخلاء، في غار او صومعة او كهف او دير، ينسجون لحياتهم نسيجا خاصا من الزهد والتعبد والابتعاد عن المجتمع.

وكان كل منهم يستحيل كوكباً منفصلاً يدور في مداره الخاص بعيداً عن المجتمع، عن الواقع، وعن الزمن، …

.. وحتى تلك اللحظة، كان يبدو لظاهر العيان أن ذلك الرجل المتعبد في غار حراء مرشح ليكون واحداً من هؤلاء الرجال المنسحبين اللذين تصير حياتهم فيما بعد مداراً خاصة لا علاقة لها بما حولها ..

حتى تلك اللحظة: بدا ذلك الرجل أنهُ سيكون واحداً من تلك الأقلية المستنكرة، مثل الأحناف أو بعض النصارى من العرب، ممن لا يصل استنكارهم إلى درجة التمرد، وبالذات لا يصل لدرجة محاولة تغيير الأوضاع ..

* * *

حتى تلك اللحظة، كان كل شيء يسير بشكل يسر الشيطان لأنه يحقق قسمهُ العتيق " فبعزتك لأغوينهم أجمعين ".

كانت الأديان قد فقدت محتواها الإنساني والروحي معاً. وصارت مجرد طقوس وشعائر لا تغني شيئاً فضلاً عن انحرافاتها الوثنية.

وهؤلاء الزهاد المنسحبون: لا صوت لهم ولا دعوة. مجرد أناس على هامش المجتمع .. والمجتمعات البشرية تسير في خطاها المحمومة نحو هاويتها، لاهيةً عن مصيرها بحروبها وعبثها وشهواتها.

.. كانت السماء صامتة – مكفهرة.

.. وكانت الصحراء خرساء كما لو كانت تخفي في أعماقها سراً دفيناً.

* * *

كل ذلك كان قبل لحظات، وكان يمكن أن يستمر دهوراً أخرى.

لكن حدث – خلال لحظة – ما غير ذلك كله ..

لم يعد ذلك الأنسحاب هروباً وعزلة: بل صار إنفتاحاً نحو العالم كله ..

الغار، من ظلمته أنبعث نور غطى وجه العالم أجمع ..

.. وذلك الرجل الذي كان مرشحاً ليصير واحداً من أولئك الزهاد المنفصلين عن المجتمع والواقع والتأريخ .. ذلك الرجل صار أمة.

عندما جاءت تلك اللحظة.

اللحظة – الذروة.

* * *

من الصعب أن نطبق نظرية بحذافيرها على تلك اللحظة. من الصعب أن نجد مصطلحاً محدداً، يتلبس تلك الذروة أو يتقمصها ..

منعطف؟ منحنى؟. ولادة جديدة؟

كل تلك كلمات. تناور وتدور حول المعاني. تصف ولا تصف. تنجح وتفشل ..

كل ما نستطيع قوله هو أن أساساً جديداً للعلاقات قد بدء. العلاقات بين الإنسان والمجتمع.

والإنسان والكون. الإنسان وخالقه …

بالضبط: ان وعياً جديداً قد بذرت بذرته في تلك اللحظة.

ولادة للوعي الإنساني؟ ربما!

* * *

كل ذلك حدث عندما جاء الملك للغار وقال لذلك الرجل تلك الكلمة الهائلة الرهيبة: إقرأ …

* * *

إقرأ …

بعد صمت طويل – دام حوالي خمسة قرون. جاءت كلمة السماء: إقرأ.

إقرأ: إنها أول كلمة اختارها الله ليعرف نفسه الى نبيه. بل الى آخر أنبيائه … وهي لا تشبه ابداً الكلمات الأخرى التي قيلت للأنبياء الآخرين …

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير