ومن تجسيم المعنويات أمثال: (وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى) فالتقوى زاد. أو صبغة الله. ومن أحسن من الله صبغة؟) فدين الله صبغة معلمة. أو (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) فالسلم مما يدخل فيه. أو (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) فالإثم مما له ظاهر وباطن. آخر هذا النحو من الاستعارات.
2 ـ ويحدث عن حالة نفسية معنوية هي حالة التضايق والضجر والحرج. فيجسمها كحركة جثمانية: ( ... وعلي الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه). فالأرض تضيق عليهم، ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض، ويستحيل الضيق المعنوي في هذا التصوير ضيقاً حسياً أوضح وأوقع، وتتجسم حالة هؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو مع الرسول (فأحسوا بهذا الضيق الخانق، وندموا على تخلفهم ذلك الندم المحرج، حتى لايجدون لهم ملجأ ولا مفراً، ولا يطيقون راحة إلى أن قبل الله توبتهم.
ومثله: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر حقاً من شدة الضيق.
ومنه: (فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون) كأنما الروح شيء مجسم، يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة.
3 ـ ويصف حالة عقلية أو معنوية، وهي حالة عدم الاستفادة مما يسمعه بعضهم من الهدى، وكأنهم لم يسمعوا به، أو يتصلوا اتصالاً ما. فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينهم وبينه. مثل: (إنهم عن السمع لمعزولون). أو (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً). أو (أفلا يتدبرون القرآن؟ أم على قلوبهم أقفالها؟). أو (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون). أو ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة).
وكلها تجسم هذه الحواجز المعنوية، كأنما هي موانع حسية، لأنها في هذه الصورة أوقع وأظهر.
4 ـ ويكون الوصف حسياً بطبيعته، فيختار عن الوصف هيئة تجسمه. كقوله: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) في مكان: يأتيهم من كل جانب، أو يحيط بهم. لأن هيئة الغشيان من فوق ومن تحت أدخل في الحسية من الوصف بالاحاطة.
5 ـ ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس: كوصف العذاب بأنه غليظ (ومن ورائهم عذاب غليظ). واليوم بأنه ثقيل: (ويذرفون وراءهم يوماً ثقيلاً).
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك، وينتقل اليوم من زمن لايمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن!
6 ـ وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس، كقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الانساني لايتسع لاتجاهين.
7 ـ ثم لما كان هذا التجسيم خطة عامة، صوّر الحساب في الآخرة كما لو كان وزناً مجسماً للحسنات والسيئات: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة). (فأما من ثقلت موازينه ... وأما من خفت موازينه). وكل ذلك تمشياً مع تجسيم الميزان.
وكثيراً ما يجتمع التخييل والتجسيم في المثال الواحد في القرآن، فيصور المعنوي المجرد جسماً محسوساً، ويخيل حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير.
1 ـ من ذلك: (بل نقذف بالحق على الباطل، فيدمغه، فإذا هو زاهق).
فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه.
2 ـ ومن ذلك: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) و (ألا في الفتنة سقطوا). فبعد أن تصبح الخطيئة شيئاً مادياً، تتحرك حركة الاحاطة، وبعد أن تصبح الفتنة لجة، يتحركون هم بالسقوط فيها.
3 ـ ومنه: (ولا تلبسوا الحق بالباطل). (فاصدع بما تؤمر). ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى. وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع، دلالة على القوة والنفاذ.
بهذه الطريقة المفضلة في التعبير عن المعاني المجردة، سار الاسلوب القرآني في أخص شأن يوجب فيه التجريد المطلق، والتنزيه الكامل: فقال: (يد الله فوق أيديهم). (وكان عرشه على الماء). (وسع كرسيه السماوات والأرض). (ثم استوى على العرش).
وثار ما ثار من الجدل حول هذه الكلمات حينما أصبح الجدل صناعة، والكلام زينة. وإن هي إلا جارية على نسق متبع في التعبير، يرمي إلى توضيح المعاني المجردة وتثبيتها، ويجري على سنن مطرد، لاتخلف فيه ولا عوج. سنن التخييل الحسي والتجسيم في كل عمل من أعمال التصوير.
ولكن تباع هذا السنن في هذا الموضع بالذات، قاطع في الدلالة ـ كما قلنا ـ على أن هذه الطريقة في القرآن أساسية في التصوير، كما أن (التصوير هو القاعدة الأولى في التعبير).