3 - بيان الحق بعدَ إشكال.
4 - كل ما فُلِق، أي كل ما شُقّ.
ونلحظ من تلك المعاني أنها ناشئة عن الشق والانفلاق، فالصبح ينشق عن الظلام، والخلْقُ كله نتيجةُ انفلاق، وانفلقَ المكان أي انشق، وتخصيص الفلَق بالذكر له أسباب ودواعٍ، منها: إن الفلَق وهو الصبح مُشعِرٌ بتبددِ ظلمةِ الليل، وزوال همومِه ومخاوفه، ومُشعر بمجيء الفرج، ولذا نسمع الشكوى من الليل وترقبَ المهموم للصبح، فإن المريض والمهموم والخائف يستطيل الليل ويتمنى ذهابه ومجيء الصبح، قال الشاعر:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولَه * عليّ بأنواعِ الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصُلبِه * وأردفَ أعجازا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ * بصبحٍ، وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فذِكرُ الفلق هنا أنسب شيء خصوصا وأنه ذكر الغاسق إذا وقب بعده. وقيل إنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة، لأن الخلقَ كالأموات، والدور كالقبور، والموت أخو النوم، والصبح كالبعث والنشور. كما أن الانفلاق والفلق مشعر بالتغير والحركة لأن معناه انشقاق ضوء الصبح عن ظلمة الليل، حيث يشرق النور ويطرد جيش الظلام ومَن يتستر فيه لخطيئة يريدها. وهذا يوحي أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كلَّ ما يخافه ويخشاه.
كما أن لفظة الفلَق أعم من لفظ الصبح، وللفلَق أكثر من معنى، ويمكن أن تكون معانيه كلُّها مرادة، فلفظ الفلَق يفيد توسعا في المعنى بخلاف كلمة الصبح، فاختيار لفظ الفلق أولى.
من سورة الحديد
وهذا مثال ثان من التفسير البياني لآية في سورة الحديد، قال الله عز وجل:
“يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ”.
في هذه الآيات يتجلى إكرام المؤمنين وإبعاد النَصَب عنهم فإن مما يستفاد من هذه الكلمات القليلة عددا الكبيرة معنى.
1 - أنه تعالى قال “يسعى نورهم” ولم يقل “يمشي نورهم” للدلالة على الإسراع بهم إلى الجنة، وهذا إكرام فإن الإبطاء إلى السعادة ليس كالإسراع إليها.
2 - أنه تعالى أسند السعي إلى النور ولم يسنده إليهم فلم يقل “يسعون” لأن السعي قد يجهدهم، فأسنده إلى النور فدل على أنه يسعى بهم.
3 - قال “يسعى نورهم”، فذكر الفاعل ولم يقل “يُسعى بهم” بالبناء للمجهول وحذف الفاعل فلا يُدرى أيسعون في ظلمة أم في نور، فذكر أن لهم نورا يسعى.
4 - أضاف النور إليهم، وهذا فيه أمران: الأول الدلالة على أن هذا النور إنما هو نور المؤمن، وهو يدل على قدر عمله. كما إنه لم يقل “يسعى النور” فيجعله عاما يستضيء به المنافقون، فجعل لكل مؤمن نوره الذي يستضيء به فلا يشاركه فيه غيره، وهذا إكرام للمؤمنين وحسرة على غيرهم.
5 - قال “بين أيديهم” ومعناها أمامه، غير أنه لم يقل “أمامهم” لأن الأمام قد يكون بعيدا عن الشخص، فيكون النور أمامه ولكن لا يستضيء به.
6 - قال “بأيمانهم” ولم يقل “عن أيمانهم” لأن معنى بأيمانهم أنه ملتصق بالأيمان وليس مبتعدا عنها لأن الباء تفيد الإلصاق.
7 - قال “بشراكم”، ولم يقل “يقال لهم بشراكم” لأنه أراد أن يجعل المشهد حاضرا ليس غائبا، يُسمع فيه التبشير ولا يُنقل.
8 - وأضاف البشرى إلى ضمير المخاطبين لتنال البشرى كل واحد، ولم يقل “البشرى جنات” وهو إكرام آخر.
9 - وقال “بشراكم اليوم” للدلالة على قرب البشرى، وأنها ليست من الوعد البعيد الوقوع، والبشرى كلما كانت أقرب كانت أحب وأدعى إلى المسرة.
هذا غيض من فيض مما توحي به الآيات من إكرام المؤمنين وتمييزهم عن المنافقين الذين ليس لهم إلا الإهانة والعذاب، وما قدمناه لكم هو أيضا غيض من فيض مما حواه هذا الكتاب النافع من دقائق التفسير البياني، بأسلوب أستاذنا الدكتور فاضل السامرائي في خطواته على طريق التفسير البياني في هذا الكتاب الصادر عن قسم البحث العلمي في جامعة الشارقة.
نسأل الله أن يؤتينا نورا، ويجعلنا من أهل النور في الدنيا والآخرة، وأن يفتح مغاليق القلوب لأنوار القرآن تنير نفوسنا العطشى وتسقي جفاف حياتنا بهدي الله.
ـ[ش. م]ــــــــ[12 Dec 2005, 11:15 م]ـ
أشكرك أخي الفاضل على نقل هذا الموضوع عن كتاب التفسير البياني وهو نشر ـ كما أشرت ـ في صحيفة الخليج في ملحق الدين للحياة في الإمارات
جزاكم الله خرا على نشر موضوعات عن الكتب القرآنية