تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(مذكَّر)، ومن ثَمَّ لا يصلح استعمالها لـ"القوة" لأنها مؤنثة، ولو كانت هى المقصودة لاستعمل القرآن لها كلمة "صواحب"، التى مفردها "صاحبة".

الحق أنى أخشى أن تكون هذه التأويلات المسرفة المتعسفة واشيةً بوجود شبهة إنكار، ولو مبطنا، لبعض من جوانب عالم الغيب، وإلا فما معنى أن يَضْرِب الإنسان صَفْحًا عن كل ما يمتّ إلى ما يسمَّى فى القرآن بـ"عالم الغيب" مؤوِّلا إياه كل مرة بشىء من عالم الحس أو مما يتعلق بعالم الحس؟ لطالما نعى محمد أسد على الحضارة الغربية وأبنائها أنهم لا يؤمنون إلا بما يقع عليه الحس، فما السر فى موقفه ذاك إذن؟ وما دام الشىء بالشىء يُذْكَر فينبغى ألا يفوتنى الإيماء هنا إلى أن ملك غلام فريد (القاديانى) قد أوَّل "التسعة عشر" فى الآية الكريمة تأويلا مشابها، إذ قال إنها الحواس التسع [49] ومقابلاتها الروحية (وهى تسعة أيضا) بالإضافة إلى الشعور بالألم والحرارة [50]. وقد ذكر أسد أن الرازى قد أول "التسعة عشر" هذا التأويل من قبل.

وإذا كان مترجمنا قد أول "الجِنّة" بـ "قوانين الطبيعة"، فها هو ذا فى موضع آخر يؤول الجن (والجنّ والجِنّة شىء واحد كما نعرف) بأنهم "ناسٌ غرباءُ مسافرون لم يُرَوْا من قبل"، وذلك فى قوله تعالى يخاطب الرسول عليه السلام: "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أَنْصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قولهم منذِرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابا أُنْزِل من بعد موسى يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلال مبين" [51]، "قل: أُوحِىَ إلىَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدى إلى الرُّشْد فآمنّا به، ولن نشرك بربنا أحدا* ... إلى آخر الآيات" [52]. وهؤلاء الناس الغرباء كانوا، كما يقول، من اليهود، إذ لم يذكروا إلا رسالة موسى مما يدل على أنهم لم يكونوا يؤمنون بعيسى عليه السلام. كما يترجم "نفرا من الجن" فى آيات "الأحقاف" بـ "جماعة من الكائنات الخفية" [53].

وتعليقى على هذا أنه ليس هناك من سبب يجعلنا نصرف لفظ "الجن" عن دلالته المعروفة إلى معنى "الغرباء من البشر"، وإلا فأين الدليل على ذلك؟ صحيح أن القرآن قد استخدم كلمة "شياطين" للبشر، لكنه حين فعل ذلك قال: "شياطين الإنس"، أما هنا فقد استعمل كلمة "الجن" مطلقة دون إضافتها إلى "الإنس" أو "البشر" أو ما إلى ذلك. وعلاوة على هذا فإن القرآن يسمى الغرباء المسافرين: "أبناء السبيل" أو الذين "على سفر"، ولا يسميهم "الجن" أبدا. ثم إننا، على مذهب محمد أسد، ينبغى أن نسمى كل مسافر أو غريب لم نره من قبل: "جِنًّا"! أَوَلَيْسَ هذا كلاما مضحكا؟ وبالإضافة إلى ذلك فإن سورة "الجن" تذكر "الجن" فى مقابل "الإنس" كما تفعل آيات كثيرة فى القرآن الكريم، ولم يقل أحد إن "الجن" فى غير هذه السورة وسورة "الأحقاف" هم الأغراب الذين لم يسبق لنا أن رأيناهم، فلماذا تشذّ هاتان السورتان؟ وماذا نفعل بقوله عز شأنه فى سورة "الجن" على لسان الطائفة التى تنتمى إلى هذا الجنس: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَسًا شديدا وشُهُبا* وأنا كنا نقعد منها مقاعدَ للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصَدا"؟ أنقول إن هؤلاء الأغراب كانوا يقعدون من السماء مقاعد للسمع، أما الآن فقد تغير الحال ولم يعد يمكنهم أن يفعلوا ذلك؟ ولكن كيف يا ترى يتسنى للبشر أن يصنعوا هذا؟ أم ترى لابد من التأويل هنا كى نغطى ظهر التأويل السابق؟ إننا، بهذه الطريقة، نضيع معالم الآيات وملامحها، ويلتبس كل شىء فيها بكل شىء!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير