وألحَّ عليه الشك كما يقول ـ فأخذ يبحث ويفكر حتى انتهى به هذا كلّه "إلى شيء إن لم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين، ذلك أن الكثرة المطلقة مما نُسَمِّيه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية ـ في شيءٍ، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام". ثم قال: "ولا أكاد أشكُّ في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدلّ على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي ([9]) ".
والأدلة التي اعتمد عليها في هذا الإنكار تتلخص في ما يأتي:
1 ـ الشعراء الجاهليون معظمهم ينتسب إلى قحطان، وكثرتهم كانوا ينزلون اليمن، والقلَّة منهم قد هاجرت إلى الشمال ([10])، مع أن لسان حمير في اليمن ليس هو لسان عدنان في الشمال، وقد قال أبو عمرو بن العلاء "وما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا ([11]) ".
2 ـ وينبغي على هذا أن "الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى، أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل، وأذيع قبل أن يظهر القرآن ([12]) ".
3 ـ إن الشعر الجاهلي العدناني لا يقوم على أساس علمي "فالرواة يحدّثوننا أن الشعر تنقَّل في قبائل عدنان. كان في ربيعة، ثم انتقل إلى قيس، ثم إلى تميم، فظلَّ فيها إلى ما بعد الإسلام أي إلى أيام بني أمية حين نبغ الفرزدق وجرير. ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا النوع من الكلام إلا باسمين، لأننا لا نعرف ما ربيعة، وما قيس وما تميم معرفة علمية صحيحة ([13]) ".
رأي ومناقشة:
لا أريد من هذه المقارنة بين القرآن والشعر ـ من زاوية التوثيق ـ أن أهدم الشعر الجاهلي، مطمئناً إلى رأي الدكتور طه حسين في ذلك، ولو فعلت ذلك أو أردته لظلمت الحقيقة العلمية، كما ظلمها غيري، وإنما هدفي من هذه المقارنة الإشارة إلى أن توثيق الشعر الجاهلي لم يصل إلى الذروة، كما حدث في القرآن الكريم، وليس معنى ذلك أن الشعر الجاهلي مشكوك فيه، أو لم يكن له وجود قبل القرآن الكريم.
والشعر الجاهلي ـ كما قدَّمت ـ كان الغرض من جمعه خدمة القرآن الكريم، ولا يُعقل أن يخدم القرآن الكريم بشعرٍ مشكوكٍ فيه، ولا قيمة له من الوجهة اللغوية.
يدلُّ على ذلك ما قاله ابن عباس: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سُئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً ([14]) ".
هنا ويجب أن نضع في أذهاننا أن الشعر الجاهلي كان يجري على ألسنة العرب الفصحاء قبل نزول القرآن الكريم، وأن العرب ما اشتهروا بالفصاحة والبلاغة إلاَّ لنبوغهم في هذا الشعر، لأنه إذا أنكرنا هذا الشعر أنكرنا إعجاز القرآن الكريم، وهو المعجزة الخالدة للإسلام، ولو أنكرنا هذا الشعر لأنكرنا القرآن الكريم نفسه، فقد أشار القرآن الكريم في أكثر من موضع إلى فصاحة العرب وبلاغتهم، ومن ثم تحدَّى هذه الفصاحة وهذه البلاغة في آيات عديدة تمثل ذلك.
أما كذب حمَّاد الذي اعتمد عليه الدكتور طه حسين في أنه كان "مشهوراً بالكذب، وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين، ودسِّه في أشعارهم حتى إن كثيراً من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلاً يقدر على صنعه، فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم ([15]) ".
فالواقع أن الاستناد إلى مثل هذه الرواية وحدها خطأ علمي فليس كل راوية "حماد" أو "خلف". وكثير من الرواة ـ كما سنبيِّنه ـ ليسوا على هذا المستوى من الكذب والنتحال.
وقد وضع الأمر في نصابه الأستاذ أحمد ضيف حيث قال:
"من المستحيل أن تكون كل هذه الأشعار أو أكثرها مخترعة أو منسوبة إلى غير قائلها بدون سبب، ولا داعٍ إلى ذلك، وذا كذب الرواة أو دسوا على بعض الشعراء شيئاً، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى مقدار ما نعرفه من الشعر الجاهلي. وكيف يمكن اختراع هذا الشعر الكثير وبه من العبارات والأساليب ما يدّل على أنه بدويُّ صرف، وأيُّ إنسان يمكنه أن يحصل على هذه القدرة ليشغل وقته بذلك، وينسبه إلى غيره، وكان أولى به أن يذكره لنفسه ليفخر به" .. إلى أن قال: "أنرمي كل الرواة وعلماء اللغة والأدب بالكذب، أو نتهمهم بعدم الثقة، لأن حماداً وغيره كذب مرة أو مرتين، وهل يصحُّ أن نحكم على البلد أجمع بالمرض، لأن بها
¥